الصينمقالات

ثلاثة آلاف عام من الشعر الصيني تكشف تغيرات جذرية في رؤية الجسد

تغييرات جذرية حدثت على رؤية الحضارات البشرية للجسد، وهذا ما يؤكده إلقاء نظرة على تصوير الفنون للأجساد وكيف تحول تدريجيا من التحرر والبوح إلى نوع من التكتم والازدراء. الشعر الصيني مثلا يبين كيف كان ينظر الصينيون إلى الجسد كمنطقة قدسية ومع مرور الوقت تحولت هذه النظرة إلى الرفض والتكتم.

في الثقافات التي تجعل من الجسد همسا لا يقال، ومن الحب سرا لا يفصح عنه، يظهر الشعر ليكسر الصمت، وليحول الرغبة إلى لغة، واللذة إلى فن. هكذا يفتح لنا كتاب “إيروتيكا الشعر الصيني” بابا نادرا ومدهشا على تقاليد شعرية عريقة، حيث كان الجنس لا يخفى، بل يحتفى به لا كإثارة، بل كجمال، كطاقة كونية، وكفن من فنون الانسجام مع الذات والكون.

هذا الكتاب، الذي جمع مختارات من الشعر الصيني عبر أكثر من ثلاثة آلاف عام، من إعداد وترجمة تشاو بينغ الشاعر والمترجم الصيني، المختص بالأدب المقارن وتوني بارنستون أستاذ الأدب الإنجليزي والشاعر الأميركي، لا يكتفي بتقديم نصوص إيروتيكية، بل يقدم معها تأريخا ثقافيا وفلسفيا لفهم كيف تعاملت الحضارة الصينية مع الرغبة، الحب، والأنوثة. أيضا هو ليس كتابا عن الجنس، بل عن الشعر حين يصبح جسدا يتكلم، ودعوة لقراءة الإيروتيكا بوصفها شكلا من أشكال الحكمة، لا الفضيحة.

الشعر الجنسي

الكتاب الذي ترجمه د. عابد إسماعيل وصدر عن دار التكوين يضم أكثر من 300 صفحة من القصائد التي تمتد عبر 3 آلاف عام، يضم قصائد من فترات زمنية مختلفة، بدءا من “كتاب الأغاني” (Shijing)  الذي يعود للألفية الأولى قبل الميلاد، مرورا بعصور أسرة تانغ وسونغ، وصولا إلى الأعمال الحديثة.

وتشمل القصائد أعمالا لشعراء معروفين مثل تسي يه (Zi Ye) والإمبراطور لي يو  (Li Yu)، بالإضافة إلى قصائد شعبية مجهولة المؤلف، وهي تؤكد التباين بين الأسلوب الأدبي الراقي في القصائد الكلاسيكية والأسلوب الصريح والجريء في الأشعار الشعبية، مما يعكس تنوع التعبير عن الحب والجنس في الثقافة الصينية.

في الاستهلال المعنون بـ”أزهار ملونة وحبيبات لؤلؤ: الجنس والإباحية في الثقافة الصينية” يربط المؤلفان تشاو وتوني بين الطب الصيني التقليدي ومفاهيم الإيروتيكا، حيث يؤكدان أن الجنس لم يكن ينظر إليه باعتباره فعلا شهوانيا فقط، بل هو عنصر في توازن الجسد والروح، كما يتجلى في مفاهيم الطاووية والكونفوشيوسية.

◙ الكتاب يقدم مختارات شعرية ومعها تأريخ ثقافي وفلسفي لفهم كيف تعاملت الحضارة الصينية مع الرغبة والحب والأنوثة

ويوضح تشاو وتوني أن الاعتقاد السائد أن الإمبراطور الصيني الأسطوري هوانغ دي، الذي حكم قبل أربعة آلاف وخمس مئة عام، هو المؤسس للعرق الصيني “هان”، (الإثنية الغالبة في الصين). وإليه يعود الفضل في تأليف أول كتاب في الطب الجنسي، ويعد من أقدم ما كتب عن الجنس، ويستند إليه في مبادئ الطب الصيني التقليدي، والفكرة بأن الجنس يمثل انعكاسا للحياة الروحية والطبية، تضرب بجذورها عميقا عن هوية الشعب الصيني.

في أحد منتخبات كونفوشيوس نقرأ العبارة التالية “قال المعلم، لم أقابل إنسانا قط يحب الأخلاق أكثر مما يحب الجنس”. ويشترك التقليدان الكونفوشي والداوي في الإيمان بأن الجنس يوحد العشاق بالكون، ما يدل على أن الموقف الإيروتيكي الصيني من الجنس كان دائما إيجابيا. ويدرج الإرث الإيروتيكي الصيني في سياق تقليد ذكوري عريق يتسم بالقداسة، حيث ينظر إليه كحالة علاجية، روحية، وطبية أيضا.

وتحتل الأفكار “الداوية” عن احتباس السائل المنوي جوهر الأدب الصيني الإيروتيكي. ووفقا للفلسفة الطبية “الداوية” فإن الجسد يخزن في داخله الدافع الجوهري للكون (chi) المؤلف من المبدأ الذكري (yang) والمبدأ الأنثوي (Yin)، وتتركز الطاقة الكلية في الشكل المطلق المسمى (Jing) الذي يفيض عن الجسد أثناء الرعشة الجنسية. والرجل الذي يفتقر في جسده إلى التوازن الصحي بين الذكورة والأنوثة يمكن أن يمتص قوة الحياة من شريكته، خلال العملية الجنسية إذا وصلت المرأة الرعشة وكبح هو رعشته.

ويلفت المؤلفان إلى أن بول راكيتان في كتابه “ثقافة الجنس في الصين القديمة” يشير إلى أن الفهم الصيني التقليدي للجنس يقوم على فكرة الكمال، حيث يتم دمج الرجل كاملا في “الأنوثة” حتى يتوصل إلى أقصى المتعة. من هنا فإن الرجل كان ينصح بضرورة إرضاء المرأة أولا، لأنه عندما يشبع الأنثى، يحقق اللذة الكاملة.

وتركز “الداوية” أيضا على التدخلات الجنسية، وتوصي بأن يتمكن الرجل من ضبط القذف لأطول مدة ممكنة، قدر الإمكان، من دون أن يصاب بالإجهاد، حتى يبقي الطاقة الحيوية داخله. يفترض أن الامتناع عن القذف يطيل العمر، ويقوي الطاقة الكامنة. ويعتقد أن امتصاص الرجل للسائل الأنثوي يعزز قوته، بينما امتصاص الأنثى للسائل الذكري يمنحها النقاء. وتربط الأدبيات الداوية بين النشوة الجنسية، وتمدد العمر، وبين ضبط القذف وطول العمر.

ويضيفان أن الكونفوشية على الرغم من أنها قدمت الثقافة الصينية مرتدية قناع اللياقة والنظام الاجتماعي، لكن، وكما كتب جون بايرون في كتابه “صورة الفروس الصيني”، “خلف هذا القناع، ثمة قبول حسي جارف بالمتعة الجنسية”، وصل ذروته في تقليد تعدد الزوجات، ولاحقا، في عادة ربط القدم، وهو من “دستور المنبهات الجنسية”، فضلا عن انتشار البغاء، والحق أن ارتياد المواخير الذي وُضع حد له خلال حكم سلالة مينغ وما تلاها، ظل يعتبر ممارسة مفيدة.

ويؤكد تشاو وتوني أنه خلال فترات من التاريخ، وجدت أنماط لافتة في السلوك الجنسي، ظهرت في الأدب، والفنون، والقصائد، وحتى في المراسلات الإمبراطورية. وقد شمل الشعر الصيني الكلاسيكي، منذ قرون، موضوع الجنس كأحد مكوناته الجمالية. ويعد كتاب “الأغاني”، وهو بمثابة أول موسوعة عن الشعر الصيني الإباحي، أحد أبرز الأمثلة على إدماج الإيروتيكا في الشعر، من خلال موضوعات الحب، واللقاء، والفراق، والحنين. إن الرهافة في الشعر الصيني تستمد من حقيقة الإحالات التي تشترك بها النخبة الصينية المثقفة، حتى وقت قريب، والتي يصعب تخيلها في الغرب. ومنذ تأسس النظام الكونفوشي في التعليم، خلال القرن الثاني قبل الميلاد، عمد الينيون إلى استظهار تقليد أدبي كامل من الكتب الكلاسيكية الكونفوشية.

من التحرر إلى القمع

وهكذا، فإن الكتاب الصينيين يتوقعون من قرائهم الإحاطة بتلك الإحالات التي تحمل أصداء كتب كلاسيكية. هذه المعرفة الأدبية المشتركة، والشعور بأن الجهابذة الأوائل أفضل بكثير من الإبداع الصرف، منحا الكتاب الصينيين الفرصة لتعميق ثقافتهم الإيروتيكية، يقول لو جي (261 – 303م) “إن تعلم الكتابة من الأعمال الكلاسيكية يشبه رسم قبضة فأس بواسطة فأس ـ النموذج موجود في يدك”، من هنا فإن أجيالا من الكتاب الصينيين تعلمت فن الشعر الإيروتيكي من “كتاب الأغاني” ومن مقاطع إيروتيكية في كتاب “أغاني الجنوب” ومن قصائد منسوبة للمحظية زي يي (القرنين الثالث والرابع) ومن شعر القصور الذي روج له حاكم سلالة “ليانغ”، الإمبراطور زياو غانغ (503 ـ 551)، ومن نصوص شعرية وأدبية محورية أخرى.

ويشيران إلى أن من أعظم شعراء القصيدة الإباحية في التقليد الأدبي الصيني هو الشاعر لي يو (937 ـ 978) آخر إمبراطور في سلالة التانغ الجنوبية. ويعود إليه الفضل في إدخال تقليد ربط القدم إلى الصين، هذا الإجراء القاسي الذي انتشر على نطاق واسع وتم منعه عام 1911، صعد الانبهار برمزية القدم، التي تغلغلت في أدب الإباحية الصينية. وكما أشار فان غوليك فإن القدم الصغيرة للمرأة.. باتت ترمز للبؤرة الأقوى في الإغراء الجسي.

ولأن تسليط الضوء على الأقدام بات من المحرمات فإن إيروتيكا هائلة نشأت حولها. فإذا حدث ولامس رجل رابطة قدم امرأة، ولم تبد اعتراضا، فسر ذلك كدعوة لممارسة الجنس. وهكذا فإن التركيز على “قدم زهرة اللوتس الذهبية” التي تطرز معظم كتيبات الجنس، وألبومات الصور الإباحية، لم يعد مسألة وثن إيروتيكي، بل استعارة تصيب كبد الجنسانية في الصين، بدءا من القرون الوسطى، في العديد من مناطق الصين، حتى أواخر الثلاثينات من القرن العشرين.

◙ الرقابة الصارمة تفاقمت بعد صعود الحزب الشيوعي الصيني حيث أضحى القمع الجنسي أشد قساوة عن ذي قبل

ويلاحظ تشاو وتوني أن الجنس في الثقافة الصينية ظل موضوعا متكاملا، سحريا وليس شرا أو عارا، إن هذا تبدل مع ظهور الكونفوشيوسية الجديدة، التي هي خليط من الكونفوشيوسية الكلاسيكية والمذهب الداوي، ورأت النور أثناء حكم سلالة التانغ، ووصلت ذروتها مع سلالة كينغ. هذه الحركة هي المعادل الغربي للعقلانية البيوريتانية (الطهرانية) والنزعة الفكتورية، في إعلانها مواقف بطريركية ضد النساء، ومناداتها كما يقول فان غوليك “بالفصل الصارم بين الجنسين”، وتحريمها “كافة مظاهر الجنس خارج سرير الزوجية”.

 وخلال حكم سلالة يوان (1271 ـ 1368)، كما يشير فانغ فو في كتابه “الجنس في الصين”، “منعت الحكومة قراءة القصائد أو الأغاني التي تحمل مغزى جنسيا في المعارض المحلية”. وكان المخالفون يعاقبون بالجلد بواسطة قضيب من الخيرزان. وأثناء حقبة سلالة كينغ (1644 ـ 1912) شهد هذا الإجراء ازدهارا ملحوظا ترافق مع محاولات اجتثاثه من جذوره وحرق الألواح الخشبية التي كانت تطبع عليها تلك الأعمال.

ويتطرق المؤلفان إلى الرقابة الصارمة التي تفاقمت بعد صعود الحزب الشيوعي الصيني، حيث أضحى القمع الجنسي أشد قساوة عن ذي قبل، وقد رأى ماو تسي تونغ أن الدوافع الجنسية ينبغي أن توجه لخدمة الثورة، وهكذا تم من جديد حظر البورنوغرافيا والإيروتيكا، وفرضت عقوبات على المخالفين وصلت حد السجن أو دفع الغرامات، وأضحى الجنس والعلاقات الغرامية من المحرمات في وسائل الإعلام والأدب.

ولم يطرأ سوى تغيير طفيف بعد وفاة ماو تسي تونغ في عام 1976، ففي الصين اليوم ثمة ما يزيد عن عشرة آلاف شرطي إنترنت يقومون بمراقبة كل نشاط، ويواجه أولئك الذين يوزعون صورا إباحية عقوبات بالسجن تصل إلى المؤبد. وعلى الرغم من أن الصين واقعة تحت قبضة نظام تسلطي قامع جنسيا، إلا أن أدباء الشتات ساهموا بنشر نتاج الأدب الصيني، خارج شواطئ الصين، من ماكو وسنغافورة إلى أستراليا والولايات المتحدة، ويأخذ ذلك الأدب أحيانا سمة صريحة، ربما كردة فعل على الضوابط التي فرضت على الأدب الرسمي في الصين.

ويأمل تشاو وتوني في هذا الكتاب نزع الأقنعة عن اللياقة الكونفوشية والشيوعية معا. فالتقليد المملوء بالحياة للشعر الصيني الإباحي، معقد وبسيط، عقلاني وشهواني، مأساوي وساخر، لكنه دائما يمثل كتابة رفيعة تكشف للقارئ الوجه الإنساني للصين.

محمد الحمامصي
كاتب مصري

 

زر الذهاب إلى الأعلى