Featuredبوتسوانا

بوتسوانا .. ماسة نقية لامعة في عمق القارة السمراء

بوتسوانا دولة في جنوب القارة الإفريقية، نحتت مسارا استثنائيا في قائمة الدول الصاعدة في إفريقيا، ما حولها إلى نموذج، حتى لا نقول معجزة، يدرس في المعاهد والكليات، ضمن تجارب الدول الناجحة والرائدة عالميا.

 

تجربة نجاح فريدة في سياق إقليمي “جنوب إفريقيا، زيمبابوي، ناميبيا” يعادي النماذج الرائدة مخافة تحولها إلى نموذج، مستغلا موقع بوتسوانا الجغرافي، فهي تنتمي إلى الدول الحبيسة، أي المحصورة وسط جغرافيا برية دون أي إطلالة على البحر، وسياق داخلي تحكمه القبيلة لا الدولة، فسلطات القبيلة، في دولة بكثافة سكانية متدنية، عابرة لجميع المجالات من السياسة حتى الاقتصاد.


ترك الاستعمار البريطاني بوتسوانا عند جلائه عنها 1966 في ذيل قائمة فقراء العالم، سابع أفقر دولة بناتج محلي إجمالي عند سقف 70 دولارا أمريكيا للفرد الواحد.

أربعة عقود من الاستغلال والنهب لم تكافئ الدولة في البنية التحتية إلا بـ12 كيلومترا من الطرق المعبدة، وخط سكة حديدية عابر، يربط زيمبابوي شرقا بجنوب إفريقيا غربا. وانحصر عائد الرأسمال البشري في مائة متعلم خريج المدرسة، فيما لم يتعد إجمالي أصحاب الشهادة الجامعية 22 شخصا في عموم الدولة.


لم يكن الاستقلال سوى فصل من معركة التحرر الكبرى لدى كثير من أبناء بوتسوانا، فأي طعم للحرية وأغلبية شعب بيتشوانا لاند – الاسم القديم للدولة – تحت ويلات الفقر والأمية والكوارث الصحية، وأرض ثلاثة أرباعها صحراء قاحلة “كالاهاري” غير قابلة للزراعة، وبلا منفذ بحري؟ أوضاع دفعت بخبراء إلى إعلان فشل الدولة، لصعوبة انطباق حالة الدولة على قوالب أو نماذج التنمية المتعارف عليها، ولم يتردد أحدهم في نصح حكومة بوتسوانا بأفضلية البقاء كإقليم في جنوب إفريقيا، واصفا حال الدولة بأنها “أسوأ بداية يمكن تخيلها لدولة ناشئة”.


كان إيمان أهل الأرض بقدراتهم أقوى من نظريات رجال الاقتصاد وخبراء التنمية ومنظري الفكر السياسي، فحنكة هؤلاء جنبت بوتسوانا ويلات الاقتتال والتناحر الداخلي، وأخرجتها من قافلة الدول الإفريقية المحكوم عليها بالفشل، نحو تحقيق إقلاع اقتصادي واستقرار سياسي، أضحى اليوم قصة من بين قصص تروى عن أعظم نجاحات التنمية في العالم.

أدركت بوتسوانا أن التفوق الاقتصادي سر الرخاء والاستقرار، فسارعت بعد الاستقلال إلى تركيز الجهود على بواعث تحقيق الإقلاع الاقتصادي، فأطلقت برامج قصد تحويل اقتصاد البلاد الهش المبني على تربية المواشي، ومنشأة صناعة واحدة لذبح الأبقار، إلى قطاع واعد يركز على تصدير اللحوم. وعزز اكتشاف احتياطيات مهمة من المعادن “النحاس والألماس” إنعاش الاقتصاد البوتسواني، إذ تملك بوتسوانا أكبر منجم للألماس في العالم “منجم أورابا” في وسط الدولة.

أعاد ظهور المعادن إلى الواجهة مخاوف من فشل الدولة، بسقوطها أسيرة لعنة اقتصاد الريع، على غرار دول إفريقية عديدة تملك احتياطيات ضخمة من المعادن “الكونغو، أنجولا، نيجريا…”، حولتها الأنظمة إلى وسيلة لتثبيت الحكم السلطوي الذي يستغل المداخيل الريعية من أجل تعزيز أركانه. ويحدث أن ينقلب الأمر أحيانا إلى سبب مباشر للقلاقل السياسية والاحتراب الداخلي بين الأطياف السياسية، بحثا عن أكبر قطعة من كعكة الريع.


لا شيء من ذلك حدث، بفضل النظام السياسي الفعال الذي أقامه سيريتسي خاما مؤسس الحزب الديمقراطي البوتسواني، أول رئيس بعد الاستقلال. فقد عمد تدريجيا إلى نزع الصلاحيات السياسية والاقتصادية من شيوخ القبائل، بإدماجها بشكل سلس في الدولة درءا لأي مشاحنات قبلية. وشكل اعتماد الإنجليزية لغة رسمية في الدولة قطيعة مع التمييز بين اللغات والثقافات المتنوعة فيها، وبداية تأسيس هوية وطنية جامعة.

ساعد النظام الاجتماعي السائد في بوتسوانا لقرون على تحقيق هذا النجاح، فمبدأ التوافق بين شيوخ القبائل أتاح مجالا للحوار والتصالح والتفاهم بينهم، من خلال الأطر التقليدية للمجتمع القبلي. وسبق للاقتصاديين دارون عاصم أوغلو وجيمس روبنسون أن أكدا – في كتابهما المشترك “لماذا تفشل الأمم” (2012) – دور هذه المؤسسات التقليدية في التجربة البوتسوانية. فقد سارعت دولة بوتسوانا، مباشرة بعد استقلالها، إلى إنشاء مؤسسات اقتصادية احتوائية “غير إقصائية”، مستثمرة بذكاء الأعراف الراسخة في النظم الاجتماعية المحلية.

هكذا تحولت بوتسوانا إلى ديمقراطية انتخابية تنافسية بشكل دوري، لم تعرف حربا أهلية أو انقلابا عسكريا. يذكر أن الجيش البوتسواني لم يتأسس إلا 1977 بعد تحرش كل من جنوب إفريقيا وزيمبابوي بالدولة، بعد معاينتهما انطلاقتها الجيدة في الاتجاه الصحيح. وتمكنت من الإفلات من الصراعات المسلحة، بنجاحها في حل مشكلتها الحدودية بشكل سلمي مع ناميبيا، مشكلة جزيرة سيدودو 1999، حتى شاع في الأمثال الشعبية لديهم أن المعارك الكبيرة “يجب أن تخاض بالكلمات”.

قاد الرئيس سيريتسي خاما ثورة ضد الفساد الإداري، باعتماد نسب منخفضة في الضرائب منعا لأي تهرب ضريبي، كما اعتمد نظام اقتصاد السوق، وحرر المبادرة الاقتصادية، وعاكس التيار في إفريقيا باعتماده نظام رأسمالية الدولة، وشن الحرب على العنصرية سواء من طرف الأقلية البيضاء أو ضدها.. أسهمت هذه الخطوات في تعزيز البناء المؤسساتي في الدولة، ورفعت الرئيس إلى مقام الأب المؤسس لدولة بوتسوانا.


نسجت بوتسوانا في العمق الإفريقي قصة نجاح ألهمت العالم، بانتقال الدخل الفردي لمواطنيها من 70 دولارا أعوام الاستقلال إلى صفوف متوسطي الدخل، 16 ألف دولار سنويا، لتصبح واحدة من أسرع الاقتصادات نموا في العالم، إذ بلغ متوسط معدل النمو السنوي نحو 9 في المائة، متجاوزة بهذه النسبة أغلب دول العالم. تبقى الشفافية الكلمة السر في المعجزة البوتسوانية، فقد صنفت من قبل منظمة الشفافية العالمية، 2002، في المرتبة الـ24 عالميا في مؤشر انعدام الفساد، متقدمة بأشواط على دول غربية كفرنسا وإيطاليا وكوريا الجنونية، ولا تزال من حينها إلى اليوم في رأس قائمة هذا المؤشر، بعد اقتناع الجميع بأن الشفافية أساس استقرار وتقدم الشعوب والأمم.

يزكي تقرير جودة المؤسسات الاقتصادية، الصادر عن معهد فرايز الكندي، هذه الحقيقة، بتأكيده تمتع بوتسوانا بحكومة غير تدخلية “6,32/10″، ومتانة النظام القضائي وحماية حقوق الملكية “8,03/10″، والتحكم المهم في معدلات التضخم “8,53/10″، ومرونة التنظيم داخل أسواق المال والعمل والاستثمار “7,53/10″، كما تزكيه الأرقام الرسمية، حيث تجاوز عدد المدارس الابتدائية 800 مدرسة، والمدارس الثانوية 280، وأنشئت جامعة تضم تسع كليات، ما أسهم في تخفيض نسبة الأمية إلى 11 في المائة. وعلى مستوى الاستقرار السياسي جاءت في المرتبة الـ48 عالميا، بحسب مؤشر الديمقراطية لجامعة فوجتزبرج الألمانية 2021.


أثبتت تجربة بوتسوانا بالدليل القاطع إمكانية النجاح بعيدا عن المركزية الغربية، ففي إفريقيا ولدى الأفارقة من مقومات التاريخ والحضارة ما يمكنهم من أن يصبحوا – حتى لو كانت الانطلاقة من أسوأ بداية يمكن تخيلها – الماسة نقية لامعة في عمق القارة السمراء.

محمد طيفوري من الرباط- الاقتصادية

زر الذهاب إلى الأعلى