همسة في قلب الأدغال…رحلة سفاري لا تُنسى في دلتا أوكافانغو

“هناك…” همس مرشدنا على عَجَل، فارتفعت الهمسة فوق سكون الأدغال.
توقفت سيارة اللاند كروزر بشكل مفاجئ، فانحنى ابني روان ينظر عبر النافذة وسأل: “ماذا هناك؟”.
أجاب المرشد ويل جونز بصوت خافت وهو يشير إلى العشب الأصفر أمامنا: “أسد”.
صرخ روان: “أين؟”
فأجاب جميع من في السيارة بخفوت واحد: “ششش…”
خرج أسد ضخم من بين الأعشاب التي تصل إلى الخصر، وعبر أمامنا على المسار الرملي على بعد أقل من عشرة أمتار. بدا على خاصرته اليمنى جرح مفتوح عميق، ومع ذلك مضى بجلال وصمت.
تابعناه بأعين مشدوهة بينما ينساب مجددًا إلى قلب الأدغال. عندها التفت إليّ روان، ذو التسع سنوات، بابتسامة واسعة وقال: “إنه يمشي وكأنه ملك”.

جئت بروان إلى دلتا أوكافانغو في شمال غرب بوتسوانا لأجل هذه اللحظات النادرة، وسلمت مهمة المغامرة إلى جونز وشركته المتخصصة في رحلات السفاري المصممة حسب الطلب. طلبت منه أن يبعدنا قدر المستطاع عن الطرق المألوفة، بما يناسب طفلًا صغيرًا يعيش في المدينة ولم يزر إفريقيا من قبل.
بدلًا من المخيمات الفاخرة الشهيرة في بوتسوانا، أخذنا جونز إلى Kweene Trails، مخيم موسمي متنقل يقع في منطقة نائية ضمن امتياز خاص. يمكنه استقبال عشرة زوار كحد أقصى، لكنه يستضيف مجموعة واحدة فقط في كل مرة، ما يعني أننا لم نرَ أي أثر للبشر طوال فترة إقامتنا. يقود هذه الرحلة المرشد المخضرم آيس غاباناكيتسو ومؤسس المخيم، المواطن البوتسواني سيمون بير.
عند غروب الشمس، كنا نجلس تحت شجرة ضخمة بينما يتقدّم فيل ضخم نحو بركة صغيرة ليشرب. رائحة المريمية البرية تعبق بالمكان، وقرود البابون تقفز فوق أرض السهول، فيما يحلّق نسر السمك الأبيض والأسود فوق رؤوسنا.

جلس روان فوق تل من تلال النمل الأبيض يشرب زجاجة الكولا، ثم سأل باستغراب: “ما هذا الشيء الذي يشبه المدخنة؟”.
ضحك بير وأجاب: “إنها تلة نمل أبيض”.
قفز روان مبتعدًا وهو يقول: “أنا أحب الطبيعة… ولكن هذه الطبيعة متقدمة قليلًا بالنسبة لي!”
في المساء، تناولنا شرائح الفيليه المطهوة على النار، ثم رفع بير يده نحو السماء المليئة بالنجوم ليُرينا الصليب الجنوبي. وعندما عدنا إلى خيمنا قال روان: “هذا المكان مجنون… إفريقيا مجنونة!”.

وفي الفجر التالي، وبينما تعبق رائحة القهوة في الهواء، أقلعنا بطائرة هليكوبتر فوق نهر أوكافانغو. كانت السافانا تموج بخضرتها الذهبية في انتظار فيضان الأمطار السنوي. من الأعلى رأينا مجموعة من الزرافات تلقي ظلالًا طويلة على الأرض، فقال روان عبر جهاز الاتصال: “انظر إلى ظلال أعناقها!”.
رؤية الحيوانات من السيارة “رائعة” بالنسبة له؛ أما رؤيتها من السماء فهي “مدهشة ومثيرة”.
لاحقًا، تبعنا بيرون سيرًا على الأقدام، وبندقيته على كتفه، فرأينا آثار فهد وريشة نيص. ثم ظهر قطيع جاموس مضاءً بضوء الشمس المتأخر، يتحرك في غبار يلمع كالماس.
سأل روان متحمسًا: “هل يمكنني حمل البندقية؟”
ضحك بيرون وقال: “ربما لا”.
هزّ روان رأسه: “كنت أعلم…”

وفي صباح آخر، كنا نتتبع نمرًا، عندما دوّى صوت صراخ القردة. قال بيرون: “إنه نداء إنذار. إنها تُعلِم الحيوانات بوجود مفترس”. انطلقنا عبر الأدغال الكثيفة حتى همس جونز: “هناك… النمر”.
تحرك بسرعة بين الأعشاب الطويلة ففات روان مشاهدته، لكن بعد دقائق ظهر نمران آخران، فتسلق روان المقاعد بحماس كي لا يفوته شيء.
في آخر أيامنا، سأل روان إن كان بإمكاننا العثور على الأسد الجريح مرة أخرى. وجدناه قريبًا من المكان الأول، نائمًا تحت الظل. جلسنا نراقبه بينما تغرب الشمس ويبرد هواء النهار.
استيقظ الأسد، تثاءب، ونظر إلينا بلا اكتراث. ظهر فيل خلفه يتحرك بخطوات واسعة رغم بطئها الظاهر. كان المشهد لوحة صامتة بين ملكين من ملوك البرية.
عندما حلّ الظلام، وقف الأسد واستعد للصيد. تقدم نحو السيارة خطوات قليلة، فضممت روان بقوة. لحظة قصيرة لكنها كثيفة. ثم انزلق الأسد عائدًا إلى العشب حتى ابتلعه الليل.














