Featuredاخبار محلية

في «دوّار الرعب»… شعرة بين الموت والحياة

في فجر يوم الخميس الثاني من أغسطس 1990، وبينما كانت الكويت لا تزال تغفو على وقع صيفها المعتاد، كنت أتهيأ لرحلة شخصية بسيطة، لم أعلم أن مصيرها سيتحوّل إلى كابوس سيبقى محفوراً في ذاكرتي ما حييت.

في اليوم السابق، كنت في عملي المعتاد في شركة المخازن العمومية بمنطقة الدوحة، خلال الفترة المسائية من الثانية ظهراً حتى العاشرة ليلاً. وكنت أعيش في سكن خاص داخل مقر الشركة، وأخطط للسفر إلى الأردن مساء الخميس بالطائرة لملاقاة والدي، الذي كان قد غادر براً إلى هناك ليل الأربعاء.

لكن قبل المغادرة، كان عليّ مراجعة السفارة الأردنية صباح الخميس لتسلم دفتر خدمة العلم. وأثناء حديثي مع بعض زملائي الكويتيين عن الأمر، اقترحوا أن نذهب فجراً لتناول الفطور في أحد المطاعم الهندية بمنطقة شرق، ومن هناك يمكنهم توصيلي للسفارة.

وقوف أو قتل

في تمام الخامسة فجراً، انطلقنا من الدوحة عبر طريق البحر، غير مدركين أن الجيش العراقي كان قد بدأ اجتياحه للكويت. وعند وصولنا إلى دوار مستشفى الصباح، فوجئنا بوجود جنود في منتصف الطريق، أوقفوا سيارتنا، وأمروا السائق: «اطبق على صفحة». كانت العبارة غريبة، بلهجة غير مألوفة، وحين تساءلت عنها، قال زملائي إنها لهجة عراقية، ويبدو أن ما يجري ليس طبيعياً.

طلبوا منا جميعاً النزول من السيارة، وسرعان ما وُضعنا وسط الدوار إلى جانب عشرات الأشخاص الآخرين. وسألتنا مجموعة الجنود: «هل تحملون سلاحاً؟» فأجبنا بالنفي. ثم أشاروا لنا بالجلوس على الأرض. وبينما كنا نتحسس خطورة الموقف، جاءت سيارة مسرعة تجاه الدوار، رفض سائقها التوقف، ففتح الجنود نيرانهم بكثافة عليها، وسقط السائق صريعاً أمام أعيننا.

بدأ الرعب يتسلل إلى أعماقي. ما الذي يحدث؟ هل نحن في حرب؟ هل هذا حقيقي؟ بدأ الجنود يصيحون: «اللي يوقف نرميه!» لم أفهم الكلمة، فسألت زملائي، فأجابوني أن «نرميه» تعني «نطلق عليه النار».

وازدادت الصورة رعباً عندما حاول أحد عمال النظافة، لم يتحمل حرارة الجو، الاقتراب من حنفية مياه وسط الدوار، فأطلقوا عليه النار مباشرة. سقط يصرخ، والدم يسيل من ساقه. كانت صرخة ممزقة، جعلتني أحاول الحفر في الأرض بيدي لأختبئ من هول ما أرى.

رصاص مختلف

كان صوت الرصاص مختلفاً عما سمعناه في أفلام «رامبو»، كان صاخباً ومعدنياً، كأنك تضرب مطرقة على صفيحة حديد فوق أذنيك. بقينا ممددين على الأرض أربع ساعات تقريباً، أو هكذا شعرت… كانت دهراً لا يُقاس بالزمن.

الأكثر رعباً أنهم استخدمونا كدروع بشرية، ووقفوا خلفنا وهم يطلقون النار على مبنى وزارة الدفاع، بينما نحن في المنتصف، بلا حول ولا قوة.

حين توقف إطلاق النار، قالوا لنا إنهم سيغادرون ساعة واحدة، ومن يتحرك سيُقتل. وما إن غادرت سياراتهم، حتى اندفع الجميع جرياً باتجاه مستشفى الصباح، وأنا معهم. دخلنا المستشفى، وهناك طلب منا الموظفون الاتصال بذوينا إن كنا نرغب بالخروج، خشية عودة الجنود.

اتصلت بأهلي، وأبلغتهم بما حدث، فجاءت شقيقاتي بالسيارة. رافقتهن وأنا أرتجف، وفي الطريق إلى منزلنا في خيطان، عانينا كثيراً من نقاط التفتيش ومركبات الجيش التي أغلقت الطرق، خاصة من جهة الشويخ.

ذلك اليوم لم يكن يوماً عادياً. كان يوماً ولدتُ فيه من جديد، لكن في عالم مختلف… عالم لم يعد آمناً كما كان قبل الفجر

المصدر: الراي

زر الذهاب إلى الأعلى