الهند

كيف تمكن اقتصاد الهند من حجز مكانه بين الكبار؟

في الوقت الذي عانت فيه معظم اقتصادات العالم بما فيها المتقدمة من أزمات متلاحقة على مدى ثلاثة أعوام بدءاً من جائحة كورونا إلى الأزمة الأوكرانية وتفاقم المخاطر الجيوسياسية في الشرق الأوسط والتي أدت إلى ارتفاع التضخم وتعثر سلاسل التوريد، فاجأت الهند الأسواق بنمو اقتصادها 7.2 بالمئة خلال عامي 2022-2023.

ليس هذا فحسب، بل إن وزارة المالية في الهند توقعت أن يصبح اقتصاد البلاد ثالث أكبر اقتصاد في العالم بحلول 2027 مع ناتج محلي إجمالي يبلغ 5 تريليون دولار، (الناتج المحلي حالياً 3.7 تريليون دولار).

ومن المرجح أن ينمو اقتصاد الهند بنسبة 7 بالمئة في السنة المالية 2024 وبذات النسبة في 2025 (وتبدأ السنة المالية في 1 أبريل وتنتهي في 31 مارس).

كما أن الحكومة حددت هدفاً أعلى يتمثل في أن تصبح الهند دولة متقدمة بحلول 2047، وفقاً لما نقلته CNBC عن كبير المستشارين الاقتصاديين في الهند، في أنانثا ناجيسواران.

ويقول ناجيسواران “إن القوة التي شهدناها في الطلب المحلي، أي الاستهلاك الخاص والاستثمار، تعود أصولها إلى الإصلاحات والتدابير التي نفذتها الحكومة على مدى السنوات العشر الماضية، كما أن الاستثمار في البنية التحتية المادية والرقمية ساعد في تعزيز جانب العرض والتصنيع ونتيجة لذلك من المرجح أن يكون نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي أقرب إلى 7 بالمئة” في السنة المالية 2025″.

إن مواجهة الهند للرياح العالمية العاتية بنمو يفوق التوقعات يدفعنا لتسليط الضوء حول الإمكانيات التي يتمتع بها اقتصادها الذي يعد حالياً خامس أكبر اقتصاد في العالم، بعد الولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا، وكيفية تمكنه من الإفلات من الأزمات العالمية وحجز مكاناً متقدماً لها بين كبرى اقتصادات العالم؟

اقتصاد الهند وفق معيار القوة الشرائية للعملات

يقول الدكتور ممدوح سلامة خبير الاقتصاد والنفط العالمي: “هناك معياران يقاس بهما اقتصاد العالم الأول هو معيار اسمي بمعنى أنه يسمح لاقتصاد العالم بالنمو على أساس نمو التضخم المالي، والثاني وهو المعيار الأصح والذي يستخدمه صندوق النقد والبنك الدوليين وهذا المعيار مبني على القوة الشرائية للعملات، وبناء على المعيار الاسمي فإن حجم اقتصاد الهند يبلغ 3.7 تريليون دولار الآن لكنه في الواقع وبناء على معيار القوة الشرائية للعملات يقدر بـ 13.3 تريليون دولار أي أنه ثالث أكبر اقتصاد في العالم بعد الصين والولايات المتحدة”.

العوامل الدافعة للصعود

أشار الدكتور سلامة إلى عديد من العوامل التي تدفع اقتصاد الهند للصعود ومنها:

سرعة نمو الاقتصاد حيث نما في العام 2023 بنسبة تزيد عن 7 بالمئة ومرجح له أن ينمو في عام 2024 وكذلك في عام 2025 بنسبة 7 بالمئة، حيث يدعم هذا النمو عدد سكان الهند الذي يزيد عن 1.4 مليار نسمة إضافة إلى ارتفاع الطلب الداخلي على البضائع والسلع بمعنى أن اقتصاد الهند يستطيع أن يُعين نفسه من الاستهلاك داخل البلاد إضافة إلى ما تصدره من مواد صناعية.

الصناعات المتطورة، إذ أن الهند تعد دولة صناعية رئيسية، وتمثل المواد المصنعة 14 بالمئة من صادراتها، كما تمثل المواد الغذائية ما يزيد عن 15 بالمئة من صادراتها أي أنها تستطيع أن “تُطعم” نفسهم بنفسها بالإضافة إلى تصدير الصناعات المتطورة.

النمو المتسارع للطبقة المتوسطة

بدورها، توقعت وكالة “ستاندارد آند بورز” تجاوز الاقتصاد الهندي نظيره الياباني ليصبح ثاني أكبر الاقتصادات في منطقة آسيا والمحيط الهادئ بحلول عام 2030، نظراً للتسارع الكبير المتوقع للنمو الهندي خلال السنوات المقبلة بدعم من إنفاق الطبقة المتوسطة في البلاد، حيث قدر تقرير للوكالة ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي الاسمي للهند من 3.5 تريليون دولار عام 2022 إلى 7.5 تريليون دولار بحلول 2030، وأن هذا التوسع الاقتصادي المتسارع قد ينتج عنه تجاوز الاقتصاد الهندي لنظيره الياباني من حيث حجم الناتج.

وأشار التقرير إلى عدة عوامل تدعم هذه التوقعات أبرزها النمو المتسارع للطبقة المتوسطة التي تقود عجلة الإنفاق الاستهلاكي، واتساع السوق المحلي، وتعزيز القطاع الصناعي الكبير لمكانتها كوجهة هامة للاستثمار بالنسبة لقطاع واسع من المؤسسات متعددة الجنسيات في قطاعات عدة، كما أن النمو السريع لقطاع التجارة الإلكترونية، والتحول نحو تقنيات الاتصال من الجيلين الرابع والخامس سيعزز من ظهور شركات صاعدة بارزة في هذا المجال.

ووفقا لبنك غولدمان ساكس، فإن الهند تستعد لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2075، متجاوزة ليس فقط اليابان وألمانيا، بل الولايات المتحدة أيضاً.

كما قدر تقرير صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير، أن يظل النمو في الهند قوياً ويبلغ 6.5 بالمئة في 2024 و2025، مع رفع التوقعات بنسبة 0.2 نقطة مئوية للعامين وذلك انعكاسا لصلابة الطلب المحلي.

اقتصاد الهند.. الفيل الآسيوي الصاعد

مثال للنمو الشامل والمستدام

من جانبه، يقول الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الله الشناوي : “في ظل سيناريو عالمي تتداخل فيه التحديات برز الاقتصاد الهندي كقوة اقتصادية وجيوسياسية مهمة مما يؤسس باتخاذ إجراءات لتصبح الهند أكبر ثالث اقتصاد في العالم، ودولة متقدمة بحلول عام 2027، ويعد ذلك مثالاً على النمو الشامل والمستدام، حيث تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن نمو الاقتصاد الهندي سيكون مدعوماً شكل أساسي بالاستهلاك الخاص المرن والاستثمار العام القوي، بالإضافة الى نمو قطاعي التصنيع والخدمات”.

وما يؤكد ذلك أن الهند لم تضطر الى رفع أسعار الفائدة بنفس وتيرة ارتفاع التضخم، ما يدعم نبرة التفاؤل هذه هو نمو الاستهلاك المحلي ونمو استهلاك الأسر وتحسن وضع التوظف قليلاً، بالإضافة الى ما قامت به الهند من تعديلات في أنظمة الضرائب وتحصيلها مما أتاح مجالاً أكثر استقرارا، وفقاً للشناوي، الذي أكد أن الهند بذلت جهوداً لجعل اقتصادها مركزاً متكاملاً للعالم، وسحرت المسوقين للعلامات التجارية مثل شركة Apple التي تخطط لفتح المزيد من المتاجر ورغبتها في تصنيع بطاريات هواتف I Phone في الهند وهذه خطوة تعزز قيمة الهند كسوق للعالم.

8 عوامل داعمة

يذكر الخبير الاقتصادي الدكتور الشناوي، ثمانية عوامل داعمة للتوقعات باحتلال الاقتصاد الهندي المركز الثالث عالمياً هي:

• زيادة حجم الانفاق الرأسمالي: حيث ارتكزت استراتيجية النمو في الهند على الإنفاق الرأسمالي الذ حقق مكاسب كثيرة، وخاصة الإنفاق الرأسمالي الحكومي، وأيضاً تنامي المنح المقدمة للولايات الهندية لبناء الأصول الرأسمالية وموارد الاستثمار في مؤسسات القطاع العام.
• التركيز على تطوير قطاعات التصنيع المتخصصة والمعقدة وبناء البنية الأساسية المادية الداعمة: ويهدف ذلك إلى تحفيز تشغيل العمالة. بالإضافة الى تركيز الحكومة الهندية على القطاعات القادرة على الاستفادة من الميزة التنافسية في المهارات والموارد، والاستفادة من فرص السوق المحلية للوصول الى أعلى مستوى في سلاسل القيمة الصناعية عالمياً.
• تنفيذ خطة الحوافز المرتبطة بالإنتاج والحوافز الضريبية وتحسين الخدمات اللوجستية ويهدف ذلك إلى تعزيز التصنيع وكذلك تخفيض تكاليف الإنتاج وتحقيق الوفر في الموارد.
• التركيز على (استنبات التكنولوجيا): وذلك لاستخدامها لتعزيز التراكم المعرفي وبناء القدرة التصنيعية المتطورة وبالتالي التوسع في منتجات التكنولوجيا الفائقة التي تحتل أعلى قمة سلاسل القيمة العالمية.
• تطوير سوق الأسهم الهندية: حيث حصلت السوق على ثاني ترتيب للأسواق الناشئة وما يدل على ذلك ما قام به بنك (جي بي مورغان) بإدراج السندات السيادية الهندية في مؤشر الأسواق الناشئة ما انعكس على زيادة التدفقات الرأسمالية الوارد للهند وهذا يساعد على تقليل الاقتراض الحكومي.
• تحسين أداء منظومة الضرائب: وذلك من خلال إدخال منصات الإيداع الالكتروني عبر الإنترنت ونماذج الإقرارات الضريبية للدخل بشكل يحقق الكفاءة ما انعكس على ارتفاع الحصيلة الضريبية. وقد ساهمت الإيرادات الضريبية المرتفعة في سد فجوة العجز المالي وزيادة الموارد المالية للحكومة لتمويل النفقات الرأسمالية.

• الرقمنة: حيث ساهمت في تعزيز سوق رأس المال من خلال زيادة كفاءة التسويات الأسرع في قطاع الأسهم، والذي انعكس بدوره على زيادة الشمول المالي من خلال استحداث أساليب مبتكرة للمدفوعات الرقمية المعتمدة على التكنولوجيا، إذ تمت الاستفادة من اتخاذ الإجراءات التي اتخذتها الهند لتحويل المعارف والمهارات الى منتجات وحلول فريدة.

ويختم الشناوي قائلاً: “نخلص مما سبق إلى أن الاقتصاد الهندي سيصبح أكثر جاذبية للمستثمرين العالميين ومن المتوقع ان يتخطى 5 تريليون دولار ومن المتوقع وصوله الى أكثر من 7 تريليون دولار بحلول عام 2030، بالإضافة الى تنامي دور الهند من خلال ما حصلت عليه من دعم المنتدى الاقتصادي العالمي لأجندة الهند لمجموعة العشرين، وتركيزها على النظام الدولي القائم على القواعد، ودعوتها للتعاون لحل القضايا المشتركة والالتزام بدعم مواقف الديموقراطية، ما يجعلها قوة استقرار في المشهد الجيوسياسي في العالم الأكثر تعقيداً”.

زر الذهاب إلى الأعلى