تنظم جمهورية كازاخستان منذ سنوات عديدة مؤتمرا دوليا يجتمع فيه زعماء الأديان العالمية والتقليدية على مائدة الحوار والبحث والتشاور من أجل الوصول إلى رؤى مشتركة وحلول فاعلة للكثير من القضايا الإنسانية، وينعقد المؤتمر بشكل دوري، وقد بلغت عدد مرات انعقاده سبع مرات، كان آخرها في سبتمبر 2022م، حيث انطلقت فعالياته في العاصمة الكازاخية “نور سلطان – آستانا”، تحت عنوان “دور قادة الأديان العالمية والتقليدية في التنمية الروحية والاجتماعية للبشرية في فترة ما بعد وباء كوفيد 19″، بحضور 108 من قادة وزعماء الأديان من 60 دولة في العالم.
ولا شك أن انعقاد مثل هذا المؤتمر يمثل خطوة مهمة على طريق تحقيق مقصود الله تعالى من الخلق وجعل الناس شعوبا وقبائل، وهو حصول التعارف والتعايش السلمي والتعاون على تحقيق البر والتقوى والخير والسلام للإنسانية جمعاء.
وقد أخبرنا القرآن الكريم بوحدة الأصل الإنساني، فقال تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء).(النساء: 1).
وبين لنا سبحانه أن المقصد من خلق الناس من ذكر وأنثى وجعلهم شعوبا وقبائل أن يتعارفوا، فقال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).(الحجرات: 13).
وبين الله تعالى أنه لا إكراه في الدين، وإنما الواجب البيان والتبيين ليظهر الرشد من الغي ثم يترك الاختيار لكل إنسان، ذلك الاختيار المسئول: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم).(البقرة: 256).
ولا شك أن الإسلام هو دين الله – سبحانه وتعالى – للإنسانية جمعاء، اشتق اسمه من السلام، وجعلت تحيته السلام، وأخبر الله أنه أرسل رسوله النبي الخاتم رحمة للعالمين جميعا (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
والأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم السلام دلت على ذلك نصوص الشرع الشريف والوقائع التاريخية.
فمن النصوص الحاكمة في المسألة تلك الآيات التي بينت أن قاعدة التعامل مع غير المسلمين ينظر فيها إلى حال هؤلاء مسالمة أو عداوة، فأما المسالمين (الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم) فالتعامل معهم يكون بالبر والقسط (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين).(الممتحنة: 8). وأما غير المسالمين (الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم) فقد حرم الله موالاتهم ومناصرتهم، فقال سبحانه: (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون).(الممتحنة: 9).
وإزاء اعتداء هؤلاء المعتدين تكون الحرب وسيلة ضرورية لتحقيق مقاصد حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال، مع أن الحرب شيء مما تكره النفوس، وقد أخبرنا الله تعالى بذلك فقال: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون).(البقرة: 216).
فالحرب خيار ضروري يقوم به المسلمون على كره نفوسهم للقتال، وليس على شوق وحب منهم لها في ذاتها، بل لقد نهي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن تمني لقاء العدو، فقال: “يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف”.
والقتال الذي شرعه الإسلام وأمر به المسلمين إنما يكون مع الذين يقاتلونهم، أما ابتداء الآخرين بالعدوان فأمر لم يحله الله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190) واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين (191) فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم (192) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين).(البقرة: 193).
وتبين الآيات القرآنية أن الرجوع عن الحرب وإحلال السلام محل القتال ممكن، بل ومأمور به، شريطة أن تظهر الرغبة الصادقة من هؤلاء المعتدين: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم).(الأنفال: 61).
يظهر مما سبق أن دلالة النصوص الشرعية على أن الإسلام هو دين السلام والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة.
ومما يدل على أن هذا هو منهج الإسلام في التعامل مع غير المسلمين دلالة الوقائع التاريخية من السيرة النبوية وسنن الخلفاء الراشدين، فقد دلت وقائع التاريخ على أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش 13 سنة من دعوته في مكة لم يقاتل فيها أحدا مع وجود الدواعي لهذا القتال من اعتداء كفار مكة السافر على رسول الله وأصحابه.
وعندما هاجر صلى الله عليه وسلم كتب وثيقة المدينة بين عناصر الدولة الناشئة فيها، وفيها الإقرار بمبدأ التعايش السلمي مع اليهود، وفي هذا تعبير عن النوايا الحسنة، غير أن اليهود هم من نقضوا هذا الميثاق بالتواطؤ مع المعتدين من كفار قريش ضد المسلمين؛ فكان أن قاتلهم الرسول وأجلاهم عن المدينة.
ومما له دلالة واضحة وكبرى في رغبة الإسلام في السلام صلح الحديبية بين المسلمين وقريش الذي كان فتحا مبينا.
والإسلام يؤسس للحوار بين أهل الأديان، ويوجه المسلمين إلى أن يكون بالتي هي أحسن (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد).(العنكبوت: 46).
ومما سبق يتبين بجلاء أن الإسلام قد أسس للسلام، غير أننا يجب أن نؤكد أن السلام الي يقصد إليه الإسلام هو السلام العادل وليس استسلام الوهن والضعف، كما أن الإسلام يوجه أنظار أهل الرأي والفكر في الأديان جميعا إلى التعايش السلمي والاهتمام بالحوار لحل القضايا المشتركة.
ولقد أبدعت جمهورية كازاخستان حين أخذت على عاتقها، وانطلاقا من مسئوليتها الكبرى في ترسيخ مبدأ التعايش السلمي بين أصحاب الديانات المختلفة = تنظيم هذا المؤتمر الدولي الذي يجتمع فيه زعماء الأديان العالمية والتقليدية على مائدة الحوار والبحث والتشاور من أجل الوصول إلى رؤى مشتركة وحلول فاعلة للكثير من القضايا الإنسانية.
وكان من النتائج والإنجازات المهمة لهذا المؤتمر أن وافق المجتمعون فيه (في دورته الثانية التي عقدت عام 2006م) على وثيقة مبادئ حوار الأديان التي توكد أن الحوار يقوم على الصدق والتسامح والتواضع والاحترام المتبادل بين أطراف الحوار التي تلتزم بالإصغاء والتمعن والتركيز، حتى لا يكون الحوار مجرد نقاش لا قيمة له، وأن يتسم الحوار بتكافؤ أطراف الحوار والفرص، مما يمكّن الجميع من التعبير الحر عن الآراء والنظريات والأفكار، مع التزام الجميع باحترام التنوع الثقافي واللغوي للمجتمعات البشرية، وألا يهدف الحوار إلى تحويل المحاور عن معتقده ، أو الإساءة إليه، كما لا يهدف إلى محو الفروقات معه، وإنما يهدف إلى التعريف والتوضيح عن معتقده بصدق، وأن يتجنب الحوار النقص أو الإساءة إلى الدين الآخر، وإنما يشجع على حسن المعرفة وفهم الآخر، ويساعد على منع تفاقم الأزمة واستخدام العنف لحل المشكلات، وأن يكون الحوار وسيلة للتعايش السلمي والتعاون المثمر بين الشعوب، وأن يشجع على التعليم الأفضل، وأن يحفز الإعلام على تفهم أهمية الحوار على تقليص مخاطر التطرف الديني، وأن يكون بناءً وفاعلاً يفتح آفاق حوارات جديدة في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية لما فيه خير المجتمعات، وأن يبعث روح التسامح التي تؤكد التعايش بين جميع الناس الذين يعيشون في هذه الأرض ويحملون قيم إنسانية مشتركة مثل حرمة الحياة واحترام الإنسان وحماية المخلوقات والطبيعة، وأن يؤكد على أن الدين يقوم بعمل بناء وحيوي في المجتمع، وأنه ينشر الخير بين الجميع، وأنه يحترم مهمة الدولة في المجتمع، وأن الحوار مطلب أساس للأجيال القادمة؛ لإقامة علاقات أفضل بين أفراد الشعب الذين تختلف عقائدهم وثقافاتهم ولغاتهم وأعراقهم.
وكان الإمام الأكبر شيخ الأزهر أحد أهم المشاركين في دورات هذا المؤتمر، وقد جدد دعوته في المؤتمر الأخير إلى أوَّلية صُنعِ السلام بين علماء الأديان ورموزها الأخوَّة الإنسانيَّة؛ ونبه أنه لا يعني مُطلقًا الدعوة إلى إدماج الأديان في دِينٍ واحد، فمثل هذا النداء لا يقول به عاقل ولا يقبله مؤمن أيًّا كان دينه؛ بل إن فكرة الاندماج هذه فكرةٌ مُدمِّرةٌ للأديان، ومُجتثَّة لها من الجذور، وهي في أفضل أوصافها خيالٌ عبثيٌّ غير قابل للتصوُّر، فضلًا عن التحقُّق..
وكيف لا وقد قضى الله أنْ يجعل لِكُلٍّ مِنَّا شِرْعةً ومِنْهاجًا!! فالمقصود إذن الدَّعوة إلى العملِ الجاد من أجل تعزيز القِيَم المشتركة بين الأديان، وفي مُقدِّمتها: قيمَةُ التَّعارُف الحضاري، والاحترامِ المتبادل والعيش المشترك بين الناس.
أ.د/يوسف محمد يوسف الهنداوي
عميد كلية الدراسات الإسلامية وعلوم الدين بجامعة نور مبارك بكازاخستان
أستاذ الشريعة الإسلامية المساعد بكلية دار العلوم جامعة القاهرة