
في عالم غالبًا ما تطغى عليه صخب المعارك وصراعات النفوذ، تأتي لحظات نادرة تُظهر قوة الدبلوماسية الهادئة. في أبوظبي، جلس الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان وجهاً لوجه، في حوار استضافته دولة الإمارات العربية المتحدة، لمناقشة مستقبل السلام في جنوب القوقاز.
لم يكن هذا الاجتماع مجرد محادثات دبلوماسية عابرة، بل نقطة تحول تاريخية أعادت تأكيد سيادة الحوار المباشر. من ترسيم الحدود إلى ممر زانكزور الواعد، يبرز هذا اللقاء كدليل على رؤية أذربيجان الثاقبة لما بعد الحرب، حيث يُبنى السلام خطوة بخطوة بعزمٍ لا يلين. هذه قصة انتصار دبلوماسي يُعيد تشكيل المنطقة، ويُلهم العالم.
حيث وُصف الاجتماع الأخير في أبوظبي بين الرئيس إلهام علييف ونيكول باشينيان بـ”البناء”، لكن هذا الوصف المتواضع لا يعكس تمامًا أهميته التاريخية. لأول مرة منذ عقود، تحدثت أذربيجان وأرمينيا مباشرة، في حوار ثنائي استضافته الإمارات العربية المتحدة، بعيدًا عن تدخلات القوى الخارجية التقليدية.
ناقش الزعيمان قضايا جوهرية: ترسيم الحدود، وإنشاء ممر زانكزور الذي سيربط أذربيجان بجيب نخجوان وتركيا، ووضع الأسس لاتفاق سلام شامل. هذا الحوار المباشر، الذي استفاد من الجو الدبلوماسي المحايد في أبوظبي، ليس مجرد خطوة دبلوماسية، بل إعلان عن سيادة المنطقة على مصيرها.
ووفقًا لتقارير حديثة، شهد الاجتماع توافقًا مبدئيًا على تشكيل لجان مشتركة لتسريع المفاوضات، مما يعزز فرص تحقيق سلام دائم في غضون سنوات قليلة.
منذ انتصار أذربيجان في حرب الـ44 يومًا عام 2020، برزت باكو كقوة إقليمية واثقة. استعادة قره باغ لم تكن مجرد إنجاز عسكري، بل بداية لاستراتيجية دبلوماسية طويلة الأمد. تحت قيادة الرئيس علييف، تحولت أذربيجان من دولة تستعيد أراضيها إلى صانعة سلام تُملي شروط المستقبل. بدلاً من الاستسلام لضغوط خارجية، أصرت أذربيجان على الحوار الثنائي، متجاوزةً هياكل مثل مجموعة مينسك التي عفا عليها الزمن. في الواقع، أظهرت دراسات حديثة أن نهج أذربيجان قلّص التدخلات الخارجية بنسبة 60% مقارنة بالمفاوضات السابقة، مما منح المنطقة فرصة لتحديد مصيرها بنفسها. هذا التحول يعكس رؤية علييف الذي جمع بين القوة العسكرية والحكمة الدبلوماسية لضمان استقرار المنطقة.
يُعد ممر زانكزور أكثر من مجرد مشروع بنية تحتية؛ إنه رمز للتكامل الإقليمي. سيربط هذا الممر أذربيجان بتركيا عبر أرمينيا، مما يفتح آفاقًا اقتصادية غير مسبوقة. مناقشته في أبوظبي تشير إلى تحول في موقف أرمينيا نحو البراغماتية، حيث باتت تدرك الفوائد الاقتصادية للتعاون.
تشير توقعات اقتصادية إلى أن الممر قد يُسهم في زيادة التجارة الإقليمية بنسبة 20% خلال العقد القادم، مما يعزز الاستقرار والرفاهية. هذا التقدم يعكس قدرة أذربيجان على تحويل انتصارها العسكري إلى رؤية اقتصادية شاملة، حيث يصبح السلام أداة للازدهار المشترك.
لم تكتفِ أذربيجان بالدعوة إلى السلام، بل استثمرت بقوة في تحقيقه. في قره باغ، تُشيَّد مدن ذكية ومطارات حديثة، مثل مطار فضولي الدولي، الذي افتُتح في2021، كجزء من إعادة إعمار المنطقة. هذه المشاريع ليست مجرد إنجازات مادية، بل رسالة نحو المستقبل يُبنى بالعمل، لا بالشعارات.
في الوقت نفسه، تجنبت أذربيجان أي خطاب استفزازي، مفضلةً نهجًا يركز على المصالحة والتعاون. على سبيل المثال، أطلقت أذربيجان برامج لإعادة دمج النازحين، حيث عاد أكثر من 30 ألف مواطن إلى قره باغ بحلول 2025، وهو رقم يُظهر التزام باكو بالاستقرار طويل الأمد. هذه الجهود تُظهر أن أذربيجان لا تسعى فقط للسلام، بل لمستقبل مستدام.
رغم التقدم، لا تزال التحديات قائمة. اتفاقية السلام لم تُبرم بعد، وترسيم الحدود في منطقة جغرافية معقدة كجنوب القوقاز لن يكون سهلاً. ومع ذلك، فإن موافقة أرمينيا على إجراء مفاوضات مباشرة، خاصة بعد أشهر من التردد والتشتت السياسي الداخلي، تُظهر أن صبر أذربيجان يؤتي ثماره. هذا النجاح ليس مدويًا، بل هو نتيجة دبلوماسية هادئة وثابتة.
لقد أثبتت أذربيجان أن القوة العسكرية يجب أن تُكمّلها الحكمة الدبلوماسية، وأن الفوز في الحرب ليس سوى بداية لتحقيق السلام الدائم.
لذلك يُعد الاجتماع في أبوظبي شهادة على قوة الدبلوماسية المباشرة. لم تكتفِ أذربيجان باستعادة أراضيها، بل أعادت تعريف قواعد السلام في جنوب القوقاز. من خلال رؤية الرئيس إلهام علييف، تحولت باكو إلى قوة إقليمية لا تفرض شروطها بالقوة، بل تُلهم بالحوار والتعاون.
هذا الإنجاز يستحق دعم المجتمع الدولي، لأنه يُظهر أن السلام الحقيقي يُصنع من قبل الدول التي عانت من الصراع، وليس من عواصم بعيدة. بينما تستعد أذربيجان وأرمينيا للمرحلة التالية من المفاوضات، تتضح حقيقة واحدة: أذربيجان لم تستعد أراضيها فحسب، بل أعادت أيضًا سيادة الدبلوماسية في منطقة لطالما خنقتها الأجندات الخارجية. وهذا وحده نصرٌ جديرٌ بالاحتفاء.