
على مدى الثلاثين عاما الماضية التي سبقت رحيله.. كرس المرحوم بإذن الله الشيخ ناصر صباح الأحمد طيب الله ثراه جهده في اتجاهين لم يحد عنهما قيد أنملة على ما خبرنا من سيرته التي اقتربنا منها كثيرا في فترة من فترات حياته: أولهما حماية المال العام من عمليات النهب المنظم التي بدأت أولى فصولها العلنية وبشكل صارخ مع الاحتلال العراقي للبلاد وتمثلت في السطو على الاستثمارات في إسبانيا وغيرها وثانيهما التنبيه إلى خطر الارتهان للنفط كمصدر وحيد للدخل في الكويت ومدى تأثير ذلك على استدامة التنمية المنشودة والانتقال بالدولة من حيز ضيق إلى أفق رحب.
وفي موازاة هذين النهجين واجه رحمه الله المعارك من معسكرين: أحدهما يطعن في صدق نواياه تجاه فلسفته لبناء الدولة وأنها تنطلق فقط من طموح شخصي له لارتقاء سدة مسند الإمارة وأنه في سبيل ذلك أخذ يرسم خطوط المناورات السياسية التي تمكن لها أن يطيح بمنافسيه من جهة ومن جهة أخرى تمهد له الطريق سريعا نحو القمة المنشودة من وجهة نظرهم.. أما المعسكر الثاني فكان خليط بين النهج التقليدي للحكم القائمة على إعلاء معادلات الولاء والترضيات السياسية وإدارة شؤون الدولة وفق نظام عشائري وقبلي وجهوي يقرب الأتباع ويغدق عليهم بالامتيازات لضمان التفرد بصياغة القرار، وبين فئة انتهازية وجدت أن لا دور لها في الكويت إن وضع المرحوم تصوراته لإدارة الدولة موضع التنفيذ الفعلي.
وما بين النهجين سار رحمه الله في حقل ألغام خاصة أن المرحلة التي أعقبت تحرير الدولة من براثن الاحتلال كان فترة إعادة بناء حقيقية لو قدر لمتخذ القرار فيها أن يستمع لأطروحات الراحل لجنب الكويت الكثير من النكبات اللاحقة وما آلت إليه الأوضاع في المرحلة الراهنة من جمود طال أغلب مستوياتها بل ربما لن نكون متجنين إن قلنا أن التدهور الحالي هو نتاج صم الآذان عما كان يطالب به رحمه الله من إعادة بناء على نهج سليم يعلي من المشاركة الشعبية إلى جهة إحكام الرقابة بما لا يدع مجالا للفاسدين في أخذ مواقع متقدمة لهم في الدولة ورفع كفاءة العنصر البشري الوطني بما يجعله منتجا وفاعلا في عطائه لوطنه وليس عالة ينتظر هبة الدولة عليه.
ومتأخرا.. انتبه سمو أمير البلاد الراحل الشيخ سعد العبدالله إبان توليه ولاية العهد ورئاسة الوزراء إلى الطرح الجاد للشيخ ناصر في إدارة شؤون الدولة فكان أن عينه مستشارا خاصا له غير أن ذلك كان في أواخر قوته وحينما بدأت علامات المرض تظهر عليه مما لم يتح المجال فعليا لأن تكون تصورات الحكيم رحمه الله في موضع التنفيذ.. وحينما اعتلى والده سمو الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد موع المسؤولية كرئيس للوزراء انسحب من المشهد جزئيا ربما لاستشعاره حرج أن يكون في موقع التوجيه والنصح لمن يفترض أن يكون له ناصحا وموجها.. وفي تصوري أن ذلك أثر كثيرا في حركته الفاعلة باتجاه المطالبة بالتغيير إذ لا يستقيم أن تكون معارضا لتوجهات السلطة التي يديرها والدك في اتجاه مغاير تماما لما كنت تنادي به.. وربما أراد رحمه الله من قبوله بمنصب وزير الديوان الأميري في بواكير عهد والده إلى أن يكون حائط صد في الاتجاهين: الاتجاه من الأعلى للأسفل بتشذيب التوجهات السلطوية التي لا تتناسب مع ما يطمح إليه من تفعيل سلطة الأمة ثم من الأسفل إلى الأعلى بتمرير الاستشارات التي تصب لصالح هذه النهج الإصلاحي.. غير أنه رحم الله وجد أن الموج يعلو على قدرته في ضبط هذا الميزان الدقيق فاختار الانزواء بعيدا عن المشهد.. وظلت استقالته من منصبه معلقة ليس بإرادته وإنما بإرادة الأمير الراحل الذي ربما كان يرى أن الاستقالة تحمل مؤشرا غير إيجابي لعهده وعليه فإن من الأسلم اعتبارها كأن لم تكن على أن يستمر الشيخ ناصر في عزلته الإدارية والسياسية ويسند الأمر إلى نائبه والذي لاحقا أقيل من منصبه في العهد الجديد ربما ليؤكد حصافة الرؤية التي كانت للشيخ ناصر رحمه الله في اختيار الفريق الذي يعمل معه ولم يكن هذا من اختياره مطلقا.
وكان الفيصل في سياق مواجهة تعاظم قوى الفساد قبوله دخول الوزارة وهو ما قوبل بترحاب شديد من قبل العديد ممن توسموا أنه قادر على كبح موجة الإفساد الطاغية في الدولة إلا أن الحالة الصحية لم تسعفه ابتداء في ذلك ثم ركون الحكم إلى النظرة التقليدية في إدارة شؤون الدولة والتي ترفض مطلقا الإشارة إلى أن أحدا من خاصتها ربما يكون فاسدا مع ما في ذلك من إشارة إلى فساد المنظومة برمتها وهو الأمر الذي وجد معه الشيخ ناصر نفسه في مستوى واحد مع مناوئيه ممن اتهمهم بالفساد وأظن أن ذلك مما لم يتحمله قلبه الموغل إخلاصا لوطنه وأسرته فكان أن سرع به إلى نهايته رحمه الله جسدا تحت الثرى وروحا ستظل علامة فارقة في التاريخ السياسي بما تحمل من مضامين الولاء والنزاهة والرغبة في وطن لا يجارى في محيطه..
رحمه الله كان حقا رجلا بمثقال وطن.. خسرت الكويت كثيرا برحيله وإنا لله وإنا إليه راجعون.