Featuredالسفر

خريف ظفار… مَن سمع ليس كمن رأى

خلال الأعوام القليلة الماضية سنحت لي الفرصة لزيارة أكثر من 20 دولة حول العالم، تنقلت بين القارات المختلفة وخبرت الفصول المتنوعة، من ثلوج أوروبا إلى شواطئ آسيا، ومن غابات أفريقيا إلى مدن أميركا الصاخبة. لكل وجهة جمالها ومميزاتها، ولكل منها أيضاً سلبياتها وتحدياتها. غير أنّ زيارتي الأخيرة إلى صلالة، عاصمة محافظة ظفار في سلطنة عُمان، جعلتني أعيد النظر في الكثير من تجاربي السياحية السابقة.

كنت قد سمعتُ كثيراً عن «خريف ظفار»، ذلك الموسم الذي تتناقل أخباره وسائل الإعلام وتتغنى بجماله الصور ومقاطع الفيديو التي ينشرها الأصدقاء والمعارف. وفي داخلي، كنت أظن أن الأمر لا يعدو كونه نوعاً من الدعاية السياحية المبالغ فيها لجذب الزوار إلى هذه المنطقة. لكن ما إن وطأت قدماي صلالة الأسبوع الماضي، حتى أيقنت أن المثل العربي القديم «من سمع ليس كمن رأى» هو أصدق ما يمكن أن يصف هذه التجربة.

في اللحظة التي جاءت فيها تلك النسائم اللطيفة وتلك الأمطار الخفيفة لتعانقني في اليوم الأول، علمت أنني كنت أشاهد واحدة من جلال خلق الله تعالى، التي لم أرها من قبل! جبال خضراء جميلة وسهول صغيرة مبهجة تتفتح فيها الزهور بين الحجارة، شلالات رغوية بين الأشجار، جداول الأنهار مع تدفق للمياه وسطح البحر اللامحدود بدرجاته الزرقاء الجذّابة… ظفار في كل زواياها جميلة، وكل صورة تأخذ أنفاسك وتجعلك تتساءل عن هذا الخالق الذي خلق هذه الأرض.

أما الطقس، فتلك قصة أخرى… في الوقت الذي تعيش فيه دول الخليج درجات حرارة لاهبة تتجاوز الأربعين والخمسين، تجد في ظفار مناخاً معتدلاً تتراوح حرارته بين 18 و25 درجة. ضباب يلف الجبال، وأمطار خفيفة تتساقط بشكل شبه يومي، وأجواء لا يمكن مقارنتها إلا بأجمل المصايف الأوروبية، مع فارق أنها هنا أقرب إلى القلب والجغرافيا.

لم يكن فقط جمال الطبيعة في ظفار هو الذي أسرني بل كرم وبساطة ودفء أهلها، الناس الذين يسكنون المحافظة، شيء أغنى في داخلي معنى إنسانياً جديداً. كنت معتاداً على الأسواق بالمعنى التقليدي كما في «سوق الحافة»، كل بائع مرحب به وفي المقاهي والحدائق الشعبية ترى الابتسامات لا تفارق عيون الناس. شعور بالهدوء والسكينة يتخلل كل جانب من جوانب الحياة اليومية.

ولأن لظفار تاريخاً ضارباً في عمق الزمن، فقد وجدت نفسي أمام إرث حضاري يروي قصص اللبان الذي وصل إلى حضارات العالم القديم من هنا، وإلى حصون وأسواق ومتاحف تحفظ ذاكرة المكان وتؤكد مكانته على طرق التجارة القديمة. بين الطبيعة والتاريخ والتراث، يجد الزائر نفسه في رحلة متكاملة قلّما يجتمع مثلها في وجهة واحدة.

بعد أسبوع من الإقامة، أدركت أن صلالة ليست وجهة عابرة أو تجربة سياحية تقليدية، بل هي حالة خاصة تستحق أن تُعاش أكثر من مرة. من زارها في الخريف لا بد أن يحنّ إلى العودة مرة أخرى، ومن لم يزرها بعد فقد فاته الكثير.

الراي

زر الذهاب إلى الأعلى