
قام الخطاطون العرب والمسلمون بتطوير فن الخط العربي بحيث يعبر عن تاريخ الإسلام وأمجاد العروبة ومستقبلها كذلك، حيث ينفتح هذا الفن على العصر فيكتسب ما هو جديد مع الحفاظ على قواعده الراسخة في جذور الحضارة العربية، وكل الخطوط التي اخترعها الفنانون تسابقت لأجل إبراز جماليات اللغة العربية والتعبير عن معانيها السامية التي حملتها في مختلف النصوص.
من الأقلام التي عبرت عن عوالم مختلفة من الجمال والأفكار خط «النستعليق»، وهو أحد الخطوط الرئيسية المستخدمة في الفارسية والأوردية والتركية العثمانية وكذا في العربية، فيعرف أيضاً بالخط الفارسي، والخط الفارسي المنسوخ أو النّسخ المعلّق، فهو مُستَمدّ من النسخ والتعليق فسمي نسخ التَّعليق، وينسب اختراع هذا الخط إلى مير علي التبريزي الذي كان يعمل في بلاط التيموري، وقد ظهرت له مدارس متنوعة أبرزها المدرسة الإيرانية تليها العثمانية والهندية والباكستانية، ومن ثم الشامية والعربية، حيث شغف به الخطاطون والفنانون وكذلك عشاق هذا الإبداع العربي الخالد في كل مكان.
ويشير المختصون إلى أن أقدم ما كُتِبَ ب«النستعليق» هو مخطوط دوّنه أبو بكر البيهقي سنة 430 هـ، ويعرف هذا الخط بمكانته الجمالية البارزة بين الأقلام الستة، حيث ما زال يستخدم بقوة في المشرق الإسلامي والعربي، وهناك أقسام من معارض خصصت له، مثلما حدث في ملتقى الشارقة للخط العربي في دورته السابقة «تراقيم»، ولعل ما يميزه عن خط النسخ الذي تطور عنه تلك الرسوم والأشكال الزائدة التي ميزته، وقد انتشر بصورة كبيرة في بلاد العرب نسبة لجمالياته الفائقة ومعماريته البديعة.
قواعد
ولـ «النستعليق» قواعد خاصة به جعلته مستقلاً عن غيره، ولا بد من تجويدها من قبل الخطاط، ومعرفة أسرارها من قبل المتلقي والمشاهد، حيث إن ضبط حروفه قائم على مقياس النقطة المربعة التي يمكن اعتبارها الميزان المستخدم في كتابة الخطوط اللينة مثل النسخ والثلث وغيرهما، وهو خط مرن يمتاز بقابليته للمد والقصر ما بين الحروف والكلمات، ومن سماته أنه يخضع للتوازن والجمال في تكوينه، وعلى الخطاط التصرف الحسن في رسم حروفه بارتفاع ومدات واتزان بالقدر الذي يزيد في جمال هيئته العامة في السطر، وهو بالنسبة لكثير من الخطاطين خط منظم، ومعتدل، ويمتاز بدوائره الكاملة والجذابة، ما يجعل اللوحة الفنية في غاية الإشراق والجمال.
استطاع الخطاطون عبر «النستعليق»، أن يصنعوا الكثير من الأعمال الضاجة بالجمال، فبالإضافة إلى النص الذي يتم انتقاؤه بعناية فإن الخطاط يعمل بجهد كبير على تزيين اللوحة بفضاءات متعددة من النقوش والزخرفة والأشكال المتعددة التي تكسب العمل بعداً جمالياً كبيراً، ما يبهج الناظر.
الفنان الإيراني عباس أخوين هو من أشهر الخطاطين الذين أبدعوا في مجال «النستعليق»، ومن أشهر أعماله هذه اللوحة التي تحمل الآية القرآنية رقم «29»، من سورة فاطر، وهي: «إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ»، والنص يبرز مكانة هؤلاء الذين يقبلون على قراءة القرآن الكريم ويقيمون الصلاة، وينفقون مما أعطاهم الله تعالى في السر والجهر، فهم الذين ربحوا البيع ويرجون ما عند ربهم.
ولئن كانت الآية عامرة بالجمال والإشراق وفيوض الأنوار والمحبة وجليل الحكم وسامي العبر، فقد عمل الفنان على التعبير عن تلك المعاني العظيمة والسامية قدر الإمكان من خلال تشكيلات يسكنها الجمال والألق عبر توظيف خصائص ومميزات «النستعليق» في صناعة الأشكال الجمالية وتطويع الحروف من مد وقصر وغير ذلك بصورة هندسية، حيث عمل على كتابة النص وتمييزه باللون الأسود من أجل أن يكون بارزاً ثم وضعه في شكل سحائب تنتظم مشهد اللوحة وكأنها تسبح في فضاء من الأنوار، بينما جاءت الخلفية بدرجات من اللون الأخضر وفيها أشكال دقيقة من النقوش بالأحمر وألوان أخرى، بينما عمل على الزخرفة النباتية باللون الأزرق في أعلى اللوحة وأسفلها في الأطراف، مع صناعة برواز دقيق من النقوش كإطار ملون بالأحمر، وكل تلك التفاصيل نجحت في صناعة مشهد لوحة خطية شديدة التميز.
إضاءة
ولد عباس أخوين في عام 1937، وهو خطاط من الطراز الأول، درس الكيمياء وحصل على درجة البكالوريوس فيها، مارس فن الخط العربي مبكراً، إلى أن صقل الموهبة بالدراسة عام 1957، على يد عدد من الخطاطين الكبار، واهتم بدراسة قواعد وأصول الخط العربي لدى عدد من أشهر الخطاطين فعرف طرائقهم وأساليبهم، وفي عام 1980 نال أخوين شهادة الأستاذية في الخط العربي من قبل مختصين أفذاذ، ليصبح واحداً من أعلام هذا الفن الجميل، وشارك في الكثير من المعارض الخطية في العديد من الدول العربية والإسلامية، وله مجموعة كبيرة مطبوعة من الأعمال.