كازاخستان

آباي قونانبايولي حكيم السهوب وملهم الأجيال

عبدالحميد حميد الكبي

يُعدّ الشاعر الكازاخستاني آباي قونانبايولي، المعروف باسم آباي، رمزًا ثقافيًا وأدبيًا لكازاخستان، وأحد أعظم الشعراء والمفكرين في تاريخها. لم يكن آباي مجرد شاعر، بل كان فيلسوفًا ومصلحًا ثقافيًا دعا إلى التنوير والمعرفة، وساهم في تشكيل الهوية الوطنية الكازاخستانية. من خلال أعماله الأدبية والفلسفية، ترك إرثًا يتردد صداه ليس فقط في كازاخستان، بل في الأدب العالمي.

في هذا العام، الذي يصادف الذكرى الـ180 لميلاده، تحتفل كازاخستان بحياة هذا الحكيم وتأثيره العميق، مستعرضة دوره، إرثه، وجهودها للاحتفاء به.

كان آباي قونانبايولي شخصية متعددة الأوجه، فهو شاعر، ملحن، فيلسوف، ومصلح ثقافي. وُلد في 10 أغسطس 1845 في منطقة سيميبالاتينسك (الآن مقاطعة آباي في شرق كازاخستان)، لعائلة نبيلة، وتلقى تعليمًا مزدوجًا في المدارس الشرعية والروسية، مما منحه منظورًا فريدًا جمع بين الحكمة الشرقية والمعرفة الغربية.

دعا آباي شعبه إلى التعليم والتنوير، مؤكدًا على أهمية العقل كمعيار للحقيقة. كتب عن قضايا المجتمع، وسخر من الانتهازية، وانتقد الفساد، مما جعله صوتًا للإصلاح في مجتمع السهوب الكازاخستاني. تعكس قصيدته “إلى الشباب” هذا الدعوة للنهضة:

> يا شباب، اطلبوا العلم، اسعَوا للتعلم،
> ليكن العقل دليل قلبكم المُهتم.
> حكمة العالم واسعة، ابحثوا عن نورها،
> فالجهل يُغرق في ظلامٍ لا ينتهي.

امتد تأثير آباي إلى ما هو أبعد من عصره، حيث شكّل وعي الأمة الكازاخستانية. ألهمت قصائده، التي تمتاز بالروح الوطنية والتأملات الفلسفية، أجيالًا من الكازاخستانيين للسعي وراء المعرفة والقيم الإنسانية. ترجم آباي أعمال كبار الأدباء الروس والأوروبيين، مثل بوشكين وغوته، مما ساهم في تقريب الثقافات. كما أشار قادة كازاخستان إلى دوره في تعزيز الهوية الوطنية، داعين إلى إحياء أعماله في المناهج الدراسية وتعزيز النقاشات الفكرية حولها.

ترك آباي إرثًا غنيًا يشمل 170 قصيدة، 56 ترجمة، 45 مثلًا قصيرًا، وأطروحة فلسفية بعنوان “كلمات التثقيف”. أدخل أشكالًا شعرية جديدة مثل المقياس السداسي، وكتب قصائد سردية طويلة مثل “إسكندر” و”مزجود”، التي عززت مكانته كمؤسس الأدب الكازاخستاني الحديث.

تُرجمت أعماله إلى 116 لغة، مما يعكس تأثيره العالمي. ألهمت رواية “درب آباي” لمختار عوزوف، التي تروي سيرته، أجيالًا من القراء، حيث أشار الكاتب مختار ماغاوين إلى تأثره العميق بها في سن الثامنة. أعمال آباي لا تزال مصدر إلهام للكتاب، حيث يجد كل قارئ فيها مزاجًا خاصًا يعكس تجربته الشخصية، سواء كانت تأملات فلسفية أو إحساسًا بالهوية الوطنية. تجسد قصيدته “الخريف” هذا العمق التأملي:

> يهدر ريح الخريف، باردًا وقارسًا،
> لكن في برده، أجد شرارتي.
> أيام الحياة الزائلة، كالأوراق تسقط،
> لكن نور الحكمة يتفوق عليها جميعًا.

تولي كازاخستان اهتمامًا كبيرًا بالحفاظ على إرث آباي، حيث أُعلن يوم ميلاده (10 أغسطس) عطلة وطنية رسمية بقرار من الرئيس قاسم جومارت توكاييف في عام 2020، ويُعرف بـ”يوم آباي”.

في العاشر من أغسطس، تحتفل كازاخستان بعيد ميلاد الشاعر والمربي والفيلسوف الكازاخستاني العظيم آباي قونانبايولي.

وفي أستانا، انطلقت فعاليات واسعة النطاق مُخصصة للذكرى الـ180 لميلاد هذا المفكر والشاعر العظيم. تقام فعاليات ثقافية وعلمية سنويًا، تشمل قراءات شعرية، مؤتمرات أدبية، ووضع الزهور على تماثيله. كما أُطلق اسم آباي على مدينة، و1441 شارعًا، و99 مدرسة، ومسرحين في كازاخستان. بالإضافة إلى ذلك، تم نصب تماثيل له في عواصم ومدن عالمية مثل عشق آباد، بكين، موسكو، نيودلهي، طهران، برلين، القاهرة، اسطنبول، أنطاليا، كييف، طشقند، سراييفو، بوخارست، وبودابست.

كما تم الكشف عن نصب تذكاري له في باريس، فرنسا، وأُنتج فيلم سينمائي عن حياته عام 1995. في عام 1995، احتفلت اليونسكو بالذكرى الـ150 لميلاده كـ”عام آباي”، مما يبرز مكانته العالمية.

تختلف انطباعات الكتاب عند قراءة آباي لأول مرة، لكنها غالبًا ما تتسم بالدهشة والإلهام. مختار ماغاوين، على سبيل المثال، أعرب عن إعجابه العميق برواية “درب آباي” في سن مبكرة، مشيرًا إلى كيف أثرت في وعيه الأدبي. كتاب آخرون، مثل مختار عوزوف، وجدوا في أعمال آباي مزيجًا فريدًا من الحكمة الشرقية والمعرفة العلمية، مما جعلهم يرون فيه رمزًا للتنوير. قصائده، التي تمتاز بالعمق الفلسفي والروح الوطنية، تثير لدى القراء مشاعر متنوعة، من التأمل في القيم الإنسانية إلى الفخر بالهوية الكازاخستانية.

أشاد الرئيس الأول لكازاخستان نور سلطان نزارباييف بآباي كرمز للتنوير الوطني، داعيًا إلى استلهام أعماله الأدبية وإحيائها في المناهج الدراسية، وإقامة مناقشات فكرية حولها لتعزيز الهوية الوطنية ومواجهة التحديات العالمية.

وفي مقالته “آباي مصلح روحي”، كتب الرئيس الحالي قاسم جومارت توكاييف أن “كلمات آباي لن تصبح قديمة أبدًا، فهي مفهومة وعالمية لجميع الناس على كوكبنا”، مشيرًا إلى أن أفكاره الشعرية والنثرية تمثل دليلًا للحياة، وأن تأملاته حول مستقبل الشعب الكازاخستاني وتعاطفه مع الناس لا تزال وثيقة الصلة بجيل اليوم.

كما كرّم الرئيس توكاييف مترجمين دوليين، مثل أباي دوان زان نغيب من فيتنام، بمنحه خطاب شكر لمساهمته في نشر أعمال آباي، مما يعكس التزامه بتعزيز إرثه عالميًا.

على الصعيد الدولي، حظي آباي بتقدير كبير، حيث احتفلت اليونسكو بذكرى ميلاده الـ150 في عام 1995، معلنةً ذلك العام “عام آباي”، تقديرًا لمساهماته في الأدب والثقافة العالمية. كما تمت ترجمة أعماله إلى 116 لغة، مما يعكس تأثيره العالمي الواسع.

على صعيد المسابقات، تقام في كازاخستان مسابقات وطنية سنوية لقراءة وتفسير أعمال آباي، خاصة في يوم آباي (10 أغسطس)، تشمل مسابقات شعرية وأدبية للطلاب والشباب. دوليًا، تُنظم فعاليات ثقافية في سفارات كازاخستان، مثل مسابقات قراءة شعر آباي بلغات مختلفة، ومسابقات ترجمة أعماله، تهدف إلى تعزيز الروابط الثقافية ونشر إرث آباي عالميًا.

كان للثقافة العربية تأثير ملحوظ على آباي، حيث درس القرآن الكريم واللغة العربية في المدرسة الشرعية في سيميبالاتينسك، مما شكّل جزءًا من تكوينه الفكري. تأثر آباي بالأدب العربي والشرقي، فقد قرأ أعمال شعراء مثل الفردوسي وسعدي، واستلهم من القصص العربية مثل “ألف ليلة وليلة”.

كما تضمنت قصائده وكتاباته، مثل “كلمات التثقيف”، تأملات فلسفية مستوحاة من القيم الإسلامية التي تشترك فيها الثقافة العربية، مثل العدل والأخلاق. لغة آباي الأدبية تضمنت طبقة من الكلمات العربية-الفارسية، مما يعكس تأثير الثقافة العربية على مفرداته وأسلوبه. هذا الارتباط يبرز في ترجماته وأشعاره التي جمعت بين الروح الوطنية الكازاخستانية والقيم الإنسانية العالمية المستمدة من التراث العربي والإسلامي. يتجلى هذا التأثير في قصيدته “الإنسان”:

> الإنسانُ قلبٌ ينبض بالحياة،
> عقله نورٌ، وروحه صفاء.
> بالعلم يرتقي، وبالخلق يسمو،
> فكن للخير عنوانًا ووفاء.

يبقى آباي قونانبايولي رمزًا خالدًا للثقافة الكازاخستانية، ومصدر إلهام للأجيال. من خلال شعره وفلسفته، لم يقتصر تأثيره على تعزيز الوعي الوطني، بل امتد ليصبح صوتًا عالميًا يدعو إلى المعرفة والإنسانية، متأثرًا بالثقافة العربية والإسلامية.

تحتفي كازاخستان بإرثه من خلال فعاليات ثقافية وتكريمات مستمرة، بما في ذلك المسابقات الوطنية والدولية، مؤكدةً على أهميته كحكيم سابق لعصره. قراءة آباي لأول مرة تظل تجربة شخصية فريدة، تترك أثرًا عميقًا يتردد في قلوب القراء عبر الأجيال.

زر الذهاب إلى الأعلى