في الآونة الأخيرة، حدثت زيادة في طلب الرأي الإستشاري لمحكمة العدل الدولية والتي تتعلق بمصالح حيوية تؤثر بشكل مباشر على استقلال الدول وعلى الرغم من أن الآراء الاستشارية ليست ملزمة ولا تتطلب موافقة الدول المعنية، فقد تم استخدام الإجراءات الاستشارية بشكل متزايد واستراتيجي من قبل الدول والمنظمات الدولية كإجراءات لحل خلافات قانونيه محددة.
تشكل الإجراءات لطلب رأي استشاري استراتيجية تقاضي “ناعمة” وأداة مفيدة بشكل خاص للدول الصغيرة أو الكيانات غير الحكومية، حيث أن لديها القدرة على موازنة التفاوتات المتأصلة في القوة في عملية التفاوض الدولي من خلال إضافة الصوت الرسمي لمحكمة العدل الدولية إلى موقفها المتنازع عليه.
خلال السنوات الـ 78 الماضية، تناولت الإجراءات الاستشارية أمام محكمة العدل الدولية بعض القضايا ذات الإثارة للجدل في الشؤون الدولية، بما في ذلك استقلال كوسوفو، واستخدام الأسلحة النووية.
وتطرقت أيضًا إلى القضايا التي تؤثر بشكل مباشر على المصالح الحيوية للدولة، مثل شرعية الجدار الإسرائيلي في الضفة الغربية ومؤخرًا إنهاء احتلال إسرائيل الغير قانوني (الاعتراف) بالأراضي الفلسطينية (حدود عام 1967) في أقرب وقت ممكن.
توجد في قائمة محكمة العدل الدولية مسألتان فقط تنتظران الفصل فيهما – إحداهما تتعلق بالتزامات الدولة فيما يتعلق بتغير المناخ والأخرى لها صلة مع منظمة العمل الدولية بشأن الحق في الإضراب.
تقبل محكمة العدل الدولية طلبات الحصول على آراء استشارية من الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ومنظمات دولية محددة، وأجهزة الأمم المتحدة المعتمدة.
على الرغم من أن الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية ليس ملزمًا رسميًا للدول، إلا أنه في الآراء الاستشاريه تمارس محكمة العدل الدولية سلطتها لتحديد النطاق الدقيق لحقوق والتزامات الدول او المنظمات وتعلن ما يتطلبه القانون الدولي من الدولة او المنظمه أن تفعله أو تمتنع عن فعله.
إن السعي إلى إصدار حكم رسمي للقانون من قبل المحكمة الدولية نادراً ما يكون هدفاً في حد ذاته، بل خطوة في عملية سياسية أوسع ولذلك، تستطيع محكمة العدل الدولية أن تلعب دوراً حاسماً في المفاوضة الدولية.
يمكن للآراء الاستشارية أيضًا أن تلعب دورًا متزايد الأهمية في حل النزاعات ويمكن استخدامها كاستراتيجية تقاضي سهلة.
ويمكن للمرء أن يقول أيضاً إن اللجوء إلى الإجراءات الاستشارية ينطوي على مخاطر أقل للتكاليف السياسية، حيث لا يوجد فائزون أو خاسرون في الرأي الاستشاري .
يمكن الوصول إلى الإجراءات الاستشارية بسهولة إلى حد ما، حيث أن المطلب الرئيسي هو الضغط على الجمعية العامة للأمم المتحدة والحصول على صوت الاغلبيه ثم تحال إلي محكمه العدل الدوليه ويتم إصدار الآراء الاستشارية في غضون عام غالبا بعد طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ولم تستخدم دول مجلس التعاون الخليجي طريق طلب الرأي الاستشاري في تسوية النزاعات. وهو خيار ممكن للغاية ويتضح أيضًا من حقيقة أن محكمة العدل الدولية نفسها تستشهد بآرائها الاستشاريه السابقه في أحكامها وآرائها السابقه ، مما يدل على أن الآراء الاستشاريه تعتبر سابقة صالحة.
علاوة على ذلك، تنطوي اجراءات طلب الرأي الاستشاري أيضًا على تكاليف مالية أقل مقارنة بالإجراءات المتعلقه بنزاع عن طريق رفع دعوى امام محكمه العدل الدوليه ويبدو أيضا أن مواضيع مثل الحدود بين الدول والإجراءات الخلافية والإجراءات الاستشارية الغير واضحة سواء من الناحية النظرية أو العملية يمكن أن يستخدم الرأي الاستشاري كإجراء مقنع في محاوله لحل النزاعات بين الدول في حال عدم حلها بالطرق السياسية.
والسؤال الذي يطرح نفسه بطبيعة الحال هو لماذا تلجأ الدول إلى طلب الرأي الاستشاري بدلا من الإجراءات المثيرة للجدل ومنها رفع دعوى أمام المحاكم الدوليه ومنها محكمه العدل الدوليه أو المحكمه الدوليه الدائمه للتحكيم .
ففي بعض الحالات، يكون الرأي الاستشارية هو الوسيلة الوحيدة المتاحة لإضفاء الصفة القضائية على قضايا الشؤون الدولية في عالم لم توافق أو تنضم فيه كل الدول لسلطة المحاكم الدولية في تحديد حقوقها والتزاماتها بموجب القانون الدولي.
علاوة على ذلك، قد يكون طلب الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية هو الآلية الوحيدة المتاحة لتسوية النزاعات بين الدول المعترف بها والجماعات الانفصالية داخل تلك الدول.
يمثل الرأي الاستشاري خيارًا جذابًا عندما تكون الدولة أو الجهة غير الحكومية التي تطلب الرأي تتمتع بمكانة أخلاقية عالية وعلاقات دبلوماسية وسياسية مميزة فمن المرجح أن تفوز بقبول الطب وصولا إلي صدور رأي استشاري لصالحها .
على سبيل المثال، في الرأي الاستشاري لكوسوفو كان نزاع صربيا مع كوسوفو وكانت صربيا الراعي الوحيد لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة واعتقدت أنها ستفوز ومع ذلك خلصت محكمة العدل الدولية في رأيها الإستشاري إلى أن اعتماد إعلان الاستقلال لم ينتهك أي قاعدة واجبة التطبيق في القانون الدولي،
قد يؤدي طلب الرأي الاستشاري إلى تكافؤ الفرص ويتم تجنب اختلال توازن القوى الذي يتخلل المفاوضات الدولية إلى حد ما في الإجراءات القضائية الدولية وتعتبر جميع الدول والكيانات غير الحكومية أطرافًا متساوية رسميًا فيما يتعلق بمكانتها القانونية وقدرتها على تقديم المطالبات.
تستجيب محكمة العدل الدولية لجميع المطالبات القانونية بطريقة قانونية متماسكة بغض النظر عما إذا كانت المطالبة مقدمة من كيان غير حكومي، أو دولة قوية، أو دولة صغيرة.
قادت جزيرة فانواتو، وهي أرخبيل جز في جنوب المحيط الهادئ وواحدة من البلدان الأكثر تأثرا بتغير المناخ، الطلب الذي ما زال منظورا أمام محكمه العدل الدولية للحصول على رأي استشاري بشأن التزامات الدول المتعلقة بتغير المناخ ويتضمن الطلب سؤالًا محددًا يتعلق بالعواقب القانونية لهذه الالتزامات فيما يتعلق بالدول، وخاصة الدول الجزرية الصغيرة النامية والتي نظرًا لظروفها الجغرافية ومستوى التنمية، معرضة بشكل خاص للآثار الضارة لتغير المناخ.
إحدى الفوائد المحتملة للرأي الاستشاري بشأن تغير المناخ هو أنه سيساعد في تعزيز “حجج الدول في المفاوضات الدولية بشأن تغير المناخ أو تقويض حجج الدول الأخرى” وكانت الكويت أيضًا طرفًا في هذا الطلب وكذلك دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى.
تشمل الأسباب الأخرى لطلب اللجوء الي الرأي الاستشاري ما يلي:
● يشكل الموقف القانوني للرأي الإستشاري دعما قويا للحقوق المشروعة المطالب بها.
● يحدد الرأي الإستشاري النصوص المتناقضة والإجراءات غير القانونية المتخذة من طرف ضد الطرف الآخر.
● يتناول الرأي الاستشاري أحياناً ما إذا كان هناك تعويض مستحق للطرف الآخر والذي سيكون بداية المطالبة بالتعويض.
● وفي التعامل مع مسألة طلب الرأي الاستشاري ، قد تضطر بقية الدول إلى الإشارة والتذكير إلى عدم مشروعية التعامل مع الطرف الغاصب.
● يعزز الرأي الإستشاري المبادئ القانونية التي تساعد في عملية التفاوض المستقبلية مع الطرف الآخر.
● يؤكد الرأي الاستشاري على الدعوة إلى احترام هذه الفتوى وتنفيذها كخطوة مهمة نحو تعزيز الشرعية الدولية.
● يشكل الرأي الإستشاري ضغطاً معنوياً وسياسياً كبيراً على الطرف الآخر والدول الداعمة له.
● الرأي الإستشاري يعزز الضغط الدبلوماسي والقانوني على الطرف الآخر.
● الرأي الإستشاري وإن لم يكن إلزامية إلا أنه يعتبر خطوة على طريق طويل نحو تحقيق العدالة للمطالب المشروعة والمتنازع عليها.
● على الرغم من أن الرأي الإستشاري ليس إلزاميا، إلا أنه يتمتع بوزن قانوني وسلطة أخلاقية وغالباً ما يكون أداة للدبلوماسية الوقائية.
● يساعد الرأي الإستشاري في توضيح وتطوير القانون الدولي وتعزيز العلاقات السلمية بين الدول والحفاظ على السلام الدولي.
● يمثل الرأي الاستشاري رفضاً لأية مطالب لا تستند إلى القانون الدولي وتستند فقط إلى القانون المحلي للبلد نفسه.
● الرأي الإستشاري يحقق الاستقرار الإقليمي وأمن دول الجوار.
● يشير الرأي الاستشاري دائما في تفاصيلها إلى المعاهدات والأعراف والقوانين الدولية التي يصعب على المجتمع الدولي تجاهلها.
يشير الرأي الاستشاري في بعض سياقه إلى حالات الفشل في الحل، سواء سياسيا أو دبلوماسيا وإن القانون الدولي ومنظماته لهم دائما دور في مواجهة وتحقيق مطالب طرف ضد الطرف الآخر.
ومع ذلك قد لا تكون الإجراءات والرأي الاستشاري بأنه الطريقة الأكثر فعالية لحل النزاع بسبب عدم إلزاميته وهو ما يمثل عادة رمزًا للافتقار العام إلى الإرادة الطوعية لحل النزاع.
ومع ذلك فإن حل النزاع بشكل نهائي ليس هو الشيء الوحيد الذي قد تفكر فيه الدول عندما تختار بدء إجراءات نزاع أمام المحاكم الدولية ضد دولة أخرى فقد يكون الرأي الاستشاري الذي تصدره محكمة العدل الدولية فعالاً بشكل خاص عندما يكون الدافع وراء طلبها هو نشر الأمر وكسب دعم الرأي العام العالمي والزخم الدبلوماسي.
تاريخيًا، حتى في العدد المحدود من القضايا التي تتوفر فيها إجراءات نزاعيه ، كانت الدول مترددة في الاستفادة منها ويعد أمر تقديم النزاع ضد دولة أو جهة خارجية أمرًا محفوفًا بالمخاطر ويستغرق وقتًا طويلاً ويمكن أيضًا اعتبار التقاضي عملاً غير ودي من جانب الدولة المدعى عليها وقد يؤثر على علاقتها بالدولة مقدمة الدعوى.
يتم تقديم الغالبية العظمى من طلبات الآراء الاستشارية من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة من خلال قرار يتطلب أغلبية بسيطه من الدول ، لذلك لا تقف الدول بمفردها بل ككتلة أغلبية ضد الدوله”المدعى عليها” إن وجدت ، وهذا يمكن أن يخفف من الطبيعة العدائية المتأصلة في الدعاوى القضائية المثيرة للجدل.
ومنذ عام 1948 حتى عام 2024، أصدرت محكمة العدل الدولية 28 رأيا استشاريا فقط ومن بين الآراء الاستشارية الـ 28 التي نشرتها محكمة العدل الدولية، يمكن القول إن 20 منها تتعلق بالمسائل الإجرائية و/أو الإدارية لأجهزة الأمم المتحدة، مثل صلاحيات الجمعية العامة للأمم المتحدة في قبول دولة ما في الأمم المتحدة والتعويض عن الأضرار التي لحقت بها في خدمة الأمم المتحدة، وآثار قرارات التعويض الصادرة عن المحكمة الإدارية للأمم المتحدة، وطلبات إعادة النظر في أحكام المحكمة الأخيرة، وتفسير الاتفاقيات المبرمة بين منظمات الأمم المتحدة والدول.
ربما كان لموضوع بعض هذه الآراء أهمية خاصة بالنسبة لبعض الدول، مثل تفسير المعاهدات بين المنظمات الدولية والدول المضيفة ومع ذلك، لم تؤثر أي من هذه الحالات على المصالح الحيوية للدولة ولم يكن لها تأثير خطير على الشؤون الدولية.
خلال السنوات الأربعين الأولى من عملها، أصدرت محكمة العدل الدولية ثلاثة آراء إستشارية فقط (طلبان لدى الجمعية العامة للأمم المتحدة والآخر طلبه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة) تتعلق بشكل مباشر بمصالح الدولة الحيوية والقضايا المثيرة للجدل سياسيًا ويشمل الرأيين المتعلقين باستقلال ناميبيا عن جنوب أفريقيا ورأي واحد يتعلق بإنهاء استعمار الصحراء الغربية ومع ذلك، منذ منتصف التسعينيات فصاعدًا حدثت زيادة في هذا النوع من طلب الآراء الاستشارية.
أصدرت محكمة العدل الدولية أربعة آراء إستشارية بشأن مسائل تؤثر بشكل أساسي ومباشر على المصالح الحيوية للدولة و/أو السيادة الإقليمية ولا يزال هناك طلبان على نفس القدر من الأهمية للحصول على آراء استشارية قيد النظر وتم تقديم جميع هذه الطلبات من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ونتيجة لذلك، فمن واقع الاراء الاستشاريه يتبين أن محكمة العدل الدولية، قد أصدرت ستة آراء إستشارية تؤثر بشكل مباشر على المصالح الحيوية للدولة بما في ذلك سيادتها الإقليمية ، وإن الرأي الاستشاري الذي أصدرته محكمه العدل الدوليه الشهر الماضي في 19 يوليو 2024 والذي يعتبر رأي استشاري تاريخي ومثالا للنظر في الآرآء الاستشاريه كخيار لحل النزاعات وسند داعم لأي مفاوضات قادمة بين طرفي النزاع .
*طارق يوسف الشميمري
شغل منصب مستشار ورئيس اللجنة المالية ورئيس لجنة الميزانيه العامه في محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي (PCA) ومراقب في المجلس الإداري بمحكمة العدل الدوليه ومستشار بسفارة دولة الكويت في لاهاي بمملكة هولندا خلال هذه الفترة من 2013 إلي 2020.
Email: tareq@alshumaimry.com