
في خطوة جريئة تمثل تحوّلاً مفصليًا في مسار التعليم بالكويت، أعلن وزير التربية الكويتي عن تشكيل لجان متخصصة لتغيير وتطوير المناهج الدراسية، في إطار خطة دولة الكويت الوطنية الشاملة التي تهدف إلى تحديث منظومة التعليم ومواكبة التطورات العالمية، وعلى رأسها الثورة التكنولوجية والذكاء الاصطناعي.
وهذه الخطوة نأمل أن تكون ليست مجرد تعديل في محتوى الكتب الدراسية، بل يجب أن يتم إعادة صياغة للهوية التعليمية الكويتية، بما يتماشى مع متطلبات سوق العمل العالمي، وتلبية طموحات الأجيال الجديدة. والتوجه الصريح نحو دمج التكنولوجيا الحديثة، لا سيما الذكاء الاصطناعي، في المقررات التعليمية.
كما نأمل أن يتم إدخال مفاهيم البرمجة، وتحليل البيانات، والتفكير الحوسبي في مراحل مبكرة من التعليم، بالإضافة إلى تعزيز المهارات الإبداعية والابتكارية لدى الطلاب.
ويُعد هذا التوجه خطوة استراتيجية إذا تمت وفقا خطة مدروسة لإعداد جيل قادر على المنافسة إقليميًا وعالميًا، وخلق بيئة تعليمية تواكب التحولات الرقمية التي يشهدها العالم.
وأحد أبرز آمالنا في هذا التحديث هو تحسين جودة مخرجات التعليم، من خلال تقليل الفجوة بين ما يتعلمه الطلاب في المدارس، وما يحتاجه سوق العمل. فالمنهج التقليدي الذي يعتمد على الحفظ والتلقين، أثبت قصوره في بناء كفاءات قادرة على الابتكار واتخاذ القرار.
ويري خبراء التربية أن أنه يجب أن تؤدي المناهج إلى تحسين مهارات التفكير النقدي، والعمل الجماعي، وحل المشكلات، وهي عناصر أساسية لبناء اقتصاد معرفي حديث في الكويت.
ولم تكن الكويت الدولة الأولى التي قررت إجراء تغييرات جذرية في مناهجها. فقد سبقتها دول مثل فنلندا، التي تُعد اليوم واحدة من أفضل الأنظمة التعليمية في العالم، بعد أن ركّزت على تطوير المناهج لتكون مرنة، قائمة على المشاريع، وتدعم التفكير النقدي والمهارات الحياتية.
وكذلك في سنغافورة، أحدثت الدولة ثورة تعليمية من خلال تحديث مناهجها وربطها بالتكنولوجيا، مما ساهم في تحويلها إلى مركز عالمي للابتكار والاقتصاد الرقمي.
وفي كندا، قامت مقاطعة أونتاريو بإعادة تصميم مناهجها لتشمل مهارات القرن الحادي والعشرين، مثل التعاون، والتفكير الإبداعي، والاتصال الفعّال، وقد أظهرت الدراسات أن 82% من الطلبة أبدوا تحسنًا في مهارات حل المشكلات بعد تطبيق المناهج الجديدة.
وفي كوريا الجنوبية، استثمرت الدولة أكثر من 2 مليار دولار في تحديث المناهج وتدريب المعلمين خلال العقد الأخير، مما ساعدها على تصدر التصنيفات العالمية في اختبارات مثل PISA.
أما إستونيا، فقد تحولت من دولة نامية إلى واحدة من أكثر الدول تقدمًا رقميًا، بفضل ربط المناهج بالتحول الرقمي واعتماد التعليم القائم على الكفاءات، مما أدى إلى احتلالها المركز الأول أوروبيًا في الأداء التعليمي وفقًا لتقرير PISA لعام 2022.
ورغم أهمية هذه الخطوة، فإن التحديات لا تغيب عن المشهد. فنجاح التغيير يعتمد على تدريب المعلمين، وتوفير البنية التحتية الرقمية، وتهيئة أولياء الأمور والطلبة لهذا التحول. كما يتطلب الأمر رؤية طويلة الأمد واستثمارًا مستدامًا في التعليم. ولكن الفرص التي قد تنتج عن هذا التحديث تفوق التحديات، فالكويت اليوم تقف على أعتاب ثورة تعليمية قد تصنع الفارق في مسيرتها التنموية والاقتصادية، وتُرسّخ مكانتها في مصاف الدول المتقدمة علميًا.
وقرار وزير التربية الكويتي ليس مجرد إصلاح داخلي، بل هو إعلان نوايا نحو تعليم يُبنى للمستقبل. تعليمٌ يراعي متغيرات العصر ويمنح أبناء الكويت أدوات المعرفة الحقيقية.
وإذا كانت الدول تُقاس بنجاحها في تربية أجيال قادرة على الإبداع، فإن الكويت تسير بخطى واثقة نحو غدٍ أكثر إشراقًا، مدفوعةً بإرادة التغيير وشغف التقدّم. وتأتي هذه الخطوة ضمن رؤية “كويت جديدة 2035”، والتي تسعى إلى تحويل الكويت إلى مركز مالي وتجاري إقليمي.
ولن يتحقق ذلك دون منظومة تعليمية مرنة، تواكب التغيّرات المتسارعة في العالم. فتطوير المناهج ليس غاية بحد ذاته، بل وسيلة لإعداد كوادر وطنية قادرة على قيادة التنمية، وتحقيق الاكتفاء العلمي والتقني داخليًا.
ونأمل أن تركز المناهج الجديدة أيضًا على القيم الوطنية، والهوية الثقافية الكويتية، لتخرج أجيالًا تعتز بوطنها وتملك في الوقت ذاته أدوات المنافسة العالمية. وإعادة تأهيل وتدريب المعلمين ليكونوا أكثر قدرة على استخدام الوسائل التكنولوجية، والتفاعل مع الأساليب الحديثة في التدريس. فقد أثبتت التجارب العالمية أن المعلم هو العمود الفقري لأي نظام تعليمي ناجح.
وفي هذا الإطار، يجب إطلاق برامج تدريبية موسعة محليًا ودوليًا، لتأهيل المعلمين على استخدام تقنيات التعليم الذكي، مثل الواقع المعزز، والتعليم الإلكتروني، وتحليل البيانات التعليمية، بما يضمن فاعلية تطبيق المناهج الجديدة. كما لم يعد الطالب متلقٍ سلبي، بل أصبح محور العملية التعليمية.
فالمناهج الحديثة تعتمد على التعليم التفاعلي، حيث يُشجّع الطالب على البحث، والمناقشة، والتجريب، بما ينمّي شخصيته ويُعزز استقلاله الفكري.
كما نأمل أن يتم تعزيز الأنشطة اللاصفية وربطها بالمقررات التعليمية، لتوسيع مدارك الطلاب وتزويدهم بمهارات القرن الواحد والعشرين، مثل القيادة، والتواصل، والمرونة في التفكير. والتحول الرقمي سيكون العصب الحيوي لهذه الخطة.
فبفضل البنية التحتية الرقمية المتطورة التي تعمل الكويت على تعزيزها، سيتم توفير محتوى إلكتروني تفاعلي، ومنصات تعليمية ذكية، تتيح للطالب التعلم وفق قدراته الفردية، ومتابعة مستواه لحظة بلحظة.
وستساهم هذه الرقمنة في تقليل الفجوة بين الطلاب، وتوفير فرص تعليم متساوية للجميع، بما فيهم ذوو الاحتياجات الخاصة وسكان المناطق النائية. رفي عصر أصبحت فيه المعرفة هي الثروة الحقيقية، تمثل خطوة تغيير المناهج في الكويت استثمارًا ذكيًا في عقول أبنائها.
فمن قاعات الدرس تبدأ النهضة، ومن صفحات الكتب تُرسم ملامح الوطن القادم. وإذا نجحت الكويت في تنفيذ هذه الخطة بالشكل الذي تطمح إليه، فإنها بلا شك ستصبح نموذجًا يُحتذى به في المنطقة، وتضع قدمها بثبات على خارطة الدول الرائدة في التعليم والمعرفة.