في ظل التغييرات المتسارعة من حولنا، وما نشهده اليوم من خيارات جديدة وتغييرات ثقافية متزايدة لمواكبة العالم الجديد، عالم ما بعد كورونا أو ما سمي The New Normal، وما رافقه من تزايد في القلق والتوتر، تبرز استراتيجيات خاصة في إنشاء بيئات طبيعية من حولنا ودمجها مع الاستراتيجيات الصحية لدعم جهازنا المناعي والتنفسي، وإدخال العادات التي تعزز التعافي والقدرة على التشافي، كعامل أساسي وحاجة ملحّة في عالم متأزم صحياً.
هذا هو الوقت المثالي لاستثمار قدرات الطبيعة من حولنا، عبر إعادة ربط الإنسان ببيئته الطبيعية، وإحدى هذه الطرق التصميم الحيوي أو البيوفيليا Biophilia، الذي يُعتبر البابليّون أول من جسّده في عمارة حدائق بابل المعلقة، لكن نظرية “البيوفيليا” طُرحت للمرة الأولى في القرن الـ20 بواسطة عالم الأحياء الأميركي إدوارد ويلسون، الذي تحدث فيها عن أن البشر مُهيأون بيولوجياً للاتصال بالطبيعة، إذ لا يمكن للمرء أن يعيش حياة صحية بعيداً من الطبيعة، لذلك نحتاج إلى اتصال مباشر بأشكال الحياة الحقيقية، بدلاً من البدائل الكئيبة التي نراها اليوم في العديد من الأعمال المعمارية، حيث تؤكد فرضية ويلسون أننا بحاجة إلى هذا الاتصال بقدر ما نحتاج إلى العناصر الغذائية والأكسجين من أجل التمثيل الغذائي لدينا.
التصميم الحيوي
ويُعرف التصميم الحيوي على أنه التصميم القادر على توفير حاجاتنا الفطرية للاتصال بالحياة وعملياتها الحيوية، ويعتمد على دمج الطبيعة وعناصرها في البناء الداخلي والخارجي في المناطق الحضرية، وخلق صلة وصل دائمة بين المشاريع المعمارية والطبيعة التي تؤدي بدورها إلى الحفاظ على الرابط الضروري بين الإنسان وبيئته الطبيعية، ونزعته الفطرية في البحث عن صلات مع الأنظمة الحية كشكل من أشكال الحياة.
وقد نشأ هذا الاتجاه في مواجهة تطبيقات التقدم التكنولوجي والدعوات إلى العولمة في المشاريع المعمارية المستقبلية التي ستفصل الإنسان عن بيئته الطبيعية.
ويعتقد علماء النفس والمصممون أن محاولة توفير مسكن جيّد للإنسان ككائن حيوي في بيئة طبيعية تعود عليه بفوائد لا تُحصى، فتطبيق استراتيجيات التصميم الحيوي وربط البشر بالطبيعة لا يؤدي فقط إلى رفع قابلية السكن في المساحات، بل يحولها إلى أماكن متجددة ومُلهمة تساعد في تحسين الصحة ورفع الإنتاجية والقدرة على التعلم وتحسين العلاقات وتعزيز الإحساس بالارتياح النفسي والسعادة والانسجام.
لذلك يجب أن يصبح “التصميم البيوفيلي” استراتيجية أساسية لأي مصمم يسعى لجعل البشر ومحيطهم أكثر صحة وسعادة.
الأنماط الحيوية
ويضم تصميم “البيوفيليا” 14 نمطاً، تُنظم في ثلاث فئات رئيسة هي: الطبيعة في الفراغ (الاتصال المباشر بالطبيعة) وهي تستلزم الاتصال المباشر بالطبيعة أو بالأنظمة الطبيعية، وتعتمد بشكل أساسي على الوجود المادي للعناصر، وتطبق بشكل مباشر باستخدام عناصر الطبيعة كالضوء والنار والماء والنبات والحيوان والمناظر والنظم الطبيعية، والفئة الثانية هي النظائر الطبيعية (الاتصال غير المباشر بالطبيعة) التي تتعلق بالأشكال والتمثيلات والصور المجردة المختلفة التي تحاكي الطبيعة، وتُطبق بشكل غير مباشر عن طريق استخدام أشكال هندسية طبيعية من صور ومواد وألوان، وتقوم بمحاكاة الضوء الطبيعي والهواء وتقليد واستحضار الطبيعة، أما الفئة الثالثة تسمى طبيعة الفراغ (ربط المكان بالبيئة الطبيعية) وهي خلق ظروف وتكوينات مكانية مدروسة مشتقة من الطبيعة ومختلطة مع النمطين السابقين، وتعتبر أعقد قليلاً من سابقتيها، لأنها تتطلب من المصمم خلق ارتباط ثقافي وبيئي بالمكان.
يمكن تنفيذ كل هذه الأنماط في مساحات متعددة المقاييس والمناخات لإظهار استجابات صحية إيجابية، لكن المساحات الحيوية التي تميل إلى استخدام أكثر من نمط واحد تعتبر الأكثر نجاحاً وتحقيقاً للتأثير المطلوب.
الجدير ذكره أن بعض هذه الأنماط يمكن تطبيقها بشكل حدسي إلى حد ما، وبعضها الآخر يحتاج إلى تخطيط دقيق ومتابعة.
التشافي ورفع الإنتاجية
لقد تبين وفقاً للعديد من الأدلة السريرية، أن العيش في بيئة كهذه من الناحية الانفعالية والبيولوجية، يمكن أن يقوي الجهاز العصبي الداخلي والجهاز المناعي، خصوصاً لدى الأشخاص الذين يعانون من أمراض واضطرابات صحية، فكما أن الوجود في غرفة تحوي نافذة تطل على مساحة خضراء خارجية يساعد في تسريع عملية الشفاء للمرضى في المستشفيات، كذلك وجود نباتات بشكل مدروس في الغرفة نفسها يمكن أن يقوم بالدور ذاته وأكثر، حيث يمكن للتصميم الحيوي أن يقلل من الإجهاد والتعب ويخفض ضغط الدم الانقباضي ومعدل النبض، ويحسن وظائف المناعة بشكل عام والوظائف الإدراكية والإبداعية وينظم العاطفة والمزاج .
ويُنصح به في المؤسسات التعليمية والطبية والعملية بشكل خاص، وفي المساحات المختلفة في المنزل، بحيث نحاول دمجها مع ديكور منازلنا بأكبر قدر ممكن وبنسب مختلفة تبعاً لمساحة المكان ووظيفته، بدءاً من إضافة عناصر تحاكي الطبيعة إلى إدخال العناصر الطبيعية مجسدة كما هي من ماء وضوء ونبات، وتنسيقها مع الديكور الداخلي.
شركات عالمية
وفي الوقت الذي تبدد فيه الشركات الأميركية مليارات الدولارات كل عام على أمل استعادة القدرة الإنتاجية المفقودة التي تسببها الأمراض المرتبطة بالتوتر والضغط النفسي، فإن التصميم الحيوي يعيد ربطنا بالطبيعة ويزود الناس بفرص للعيش والعمل في أماكن ومساحات صحية مع ضغوط أقل وصحة عامة ورفاهية أكبر.
والحقيقية أن “التصميم البيوفيلي” استُخدم من قبل شركات كبرى في بناء مقراتها ومكاتبها كشركة “أمازون” الذي يعد مقرها في واشنطن من أجمل تطبيقات هذا التصميم، وهو عبارة عن ثلاث كرات ذات قبب زجاجية ضخمة وحديقة خاصة للاجتماعات واللقاءات مزوّدة بشلالات وطيور و400 نوع نباتات داخل البناء وخارجه، لتوفير بيئة عمل هادئة ومناسبة لحل المشكلات ورفع الإنتاجية.
إن التصميم باعتماد استراتيجيات “البيوفيليا” هو أكثر من مجرّد تطبيق تقنية أو منهجية علمية، فتطبيقه بشكل فعّال يعتمد على تبني وعي جديد اتجاه الطبيعة، إذ ينطلق المصمم في تصميمه من فكر يؤمن بمدى أهمية التركيز على الصحة الجسدية والعقلية واعتماده كنمط حياة بدءاً من المنزل وصولاً إلى كل الأماكن التي نرتادها من أماكن العمل إلى المطاعم والمستشفيات والمتنزهات.
اندبندنت عربية