التحديات وفرص النجاح في قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية – بقلم طارق يوسف الشميمري
في 12 يناير 2024 اختتمت محكمة العدل الدولية جلسة الاستماع الأولى في قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، والتي اتهمت فيها جنوب أفريقيا إسرئيل بنية ارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة.
وبتحليل القضية والنظر في التحديات وفرص النجاح بالنسبة لجنوب أفريقيا في قضيتها أمام محكمة العدل الدولية يتبين الآتي :-
أولاً: لا تتطلب المحكمة لإصدار الأوامر والتدابير الاحترازية المؤقتة النظر في موضوع الدعوى، أو تقييم الأدلة المقدمة ، وإنما تنظر فقط من ظاهر الأوراق إذا ما كان هناك ظرف أو حدث طارئ سوف يترتب بسببه ضرر لا يمكن تداركه ويحتاج إلي تدابير مؤقته عاجلة لا تحتمل التأخير ، وبالنسبة لطلب جنوب إفريقيا فإن شبهة ارتكاب إسرائيل لجريمة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة تكفي لاستيفاء شرط قبول المحكمة لطلب إصدار الأمر الاحترازي المؤقت. والشبهة هي أمر متوافر حالياً في ضوء الأعمال الوحشية التي ترتكبها إسرائيل في القطاع والتي يترتب عليها أضرار إنسانية جسيمة لا يمكن تداركها دون اتخاذ تدبير عاجل.
ثانياً: كما تقدمت جنوب أفريقيا إلى المحكمة بمجموعة من الطلبات العاجلة أهمها المطالبة بالوقف الفوري وتعليق العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة لكن الحزمة تضمنت أيضًا طلبًا بأن تأمر المحكمة الحكومة الإسرائيلية بعدم التحريض بشكل مباشر وعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية، وأن تقوم إسرائيل بمحاسبة أعضاء الحكومة الإسرائيلية الذين يفعلون ذلك، وأن تتخذ إسرائيل جميع الإجراءات اللازمة لإلغاء القرارات الحكومية ذات الصلة لمنع وحرمان الفلسطينيين في قطاع غزة من الوصول والحصول على الغذاء وأن تأمر المحكمة إسرائيل باتخاذ إجراءات احترازية لمنع تدمير الأدلة على ممارساتها العسكرية والاحتفاظ بتلك الأدلة لعرضها على المحكمة وأن تقدم إسرائيل تقارير دورية عن التدابير المتخذة للامتثال للإجراءات الاحترازية التي أمرت بها، والامتناع عن اتخاذ التدابير التي من شأنها أن تزيد من تفاقم الصراع.
وباستثناء طلب الوقف الفوري للعمليات العسكرية فإن الطلبات التي قدمتها جنوب أفريقيا لن تواجه طعوناً قانونية لأن معظمها معقولة ومتناسبة مع ظروف الحدث وخطورته.
ثالثاً: فيما يتعلق بطلب وقف إسرائيل الفوري لكافة عملياتها العسكرية في قطاع غزة فإن جنوب أفريقيا قد تواجه بعض التحديات القانونية فيما يتعلق بتحديد طبيعة الإجراء المؤقت وصياغة الجزء التنفيذي لهذا الطلب حيث أن طلب جنوب أفريقيا كان عاماً في صياغته – “جميع عملياتها العسكرية”. وقد يكون من الصعب على المحكمة الرد على هذا الطلب بشكل كامل لأنه لا يتوافق مع حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وحيث أنه حتى لو كانت بعض أعمال إسرائيل تعتبر غير قانونية لأنها تحمل طابع الإبادة الجماعية، فإن بعض الأعمال الأخرى قد تكون مشروعة من وجهة نظر القانون الدولي مثل قمع إطلاق الصواريخ الموجهة نحو إسرائيل ومحاولة الوصول إلى الرهائن الإسرائيليين أو استهداف بعض أعضاء حركة حماس على وجه الخصوص ولذلك فإن القول بوقف كافة العمليات العسكرية التي تقوم بها إسرائيل قد يُنظر إليه على أنه طلب يتضمن زيادة أو مبالغة وخروجاً عن نطاق تطبيق اتفاقية منع الإبادة الجماعية إلى حد الإجحاف بحق إسرائيل المشروع في الدفاع عن نفسها وذلك حسب ادعاء اسرائيل .
وبناء على ذلك، فإن ما يحتمل أن يحدث هو ظهور خلاف بين أعضاء المحكمة بشأن صياغة الأمر التنفيذي، حيث قد تتبع المحكمة سابقتها في قضية البوسنة ضد يوغوسلافيا (صربيا والجبل الأسود)، والتي امتنعت المحكمة عن إصدار أمر احترازي بوقف العمليات العسكرية التي تقوم بها صربيا بشكل كامل واقتصرت عند صياغة المنطوق على إلزام صربيا باتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية دون ذكر العمليات العسكرية أو وقف العدوان بشكل عام.
*المدة الزمنية لإصدار الأمر الاحترازي المؤقت
فيما يتعلق بالمدة الزمنية لإصدار الأمر الاحترازي المؤقت عادة ما تصدر محكمة العدل الدولية قرارها بشأن تطبيق الأمر الاحترازي المؤقت خلال فترة تتراوح من أسابيع إلى أشهر ففي قضية البوسنة على سبيل المثال، جاء قرار المحكمة بعد ثلاثة أسابيع من تقديم البوسنة للطلب العاجل وبعد أقل من أسبوع من سماع المرافعة الشفهية بشأن الطلب.
أما في قضية غامبيا فقد جاء قرار المحكمة بشأن الإجراءات الاحترازية بعد حوالي شهرين من تقديم غامبيا طلبها (ولكن بعد حوالي شهر واحد فقط من جلسات المرافعة لهذا الطلب) .
وفي القضية التي رفعتها كندا وهولندا ضد سوريا بشأن التعذيب جاء قرار المحكمة بشأن التدابير الاحترازية بعد أكثر من خمسة أشهر من تقديم الطلب (ولكن بعد حوالي شهر واحد فقط من جلسات المرافعة للطلب) وفي القضية الجارية بين أوكرانيا وروسيا، جاء قرار المحكمة بشأن التدابير الاحترازية بعد حوالي شهر من تقديم أوكرانيا الطلب، وبعد حوالي أسبوعين من جلسات الاستماع العامة.
ولذلك فمن المرجح أن تصدر المحكمة قرارها بشأن هذا الطلب خلال أسابيع (وليس أشهر) نظراً للطبيعة العاجلة للظروف الإنسانية لهذا الصراع، والتي تتشابه في خطورتها مع كل من الصراع في البوسنة والقضية الأوكرانية ، لكن يجب أيضاً الأخذ في الاعتبار أن الخلاف بين أعضاء المحكمة قد يؤدي إلى تمديد فترة المداولة بين القضاة لمدة أسبوع أو أسبوعين على الأكثر في محاولة لتقليص فجوة الاختلاف في الرأي.
وفي موضوع النزاع أعتقد أن الدعوى لا تخلو من التحديات القانونية التي ستواجه بالضرورة الطرفين:
أولاً: بالنسبة لجنوب أفريقيا فإن إثبات ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية لا يخلو من التحديات إذ يتطلب القانون الدولي إثبات نية واضحة ومحددة لتدمير جماعة بأكملها أو جزء منها ينتمي إلى عرق أو دين أو عرق معين ووصفت جنوب أفريقيا في ادعائها العدوان الإسرائيلي بأنه “يحمل طابع الإبادة الجماعية لأنه يهدف إلى تحقيق تدمير قسم كبير من الفلسطينيين”، وتحديدا الفلسطينيين الذين يعيشون في قطاع غزة. واستشهدت جنوب أفريقيا كدليل على نية الإبادة الجماعية بقتل إسرائيل المتعمد للمدنيين الفلسطينيين في غزة وإلحاق أضرار جسدية ونفسية خطيرة بهم وخلق ظروف معيشية خاصة تهدف إلى تدميرهم جسديا بشكل متعمد مثل عزلهم وحرمانهم من المياه والدواء والوقود والمأوى وغيرها من المساعدات الإنسانية ، كما أشارت جنوب أفريقيا إلى التصريحات المتكررة التي أدلى بها ممثلو الحكومة الإسرائيلية، بما في ذلك رئيس الوزراء ووزير الدفاع والرئيس كدليل على نية الإبادة.
لكن هذه الأدلة يمكن دحضها وتصويرها على أنها رد فعل على الهجوم الذي نفذته حركة حماس يوم 7 أكتوبر 2023، وأن إسرائيل لم تكن لتفعل كل هذا لولا هذا الهجوم وأن الحصار المفروض على غزة منذ الانسحاب الإسرائيلي ما هو إلا إجراء احترازي لمنع عمليات المقاومة من الوصول إلى عمق إسرائيل ولذلك فإن العمليات العسكرية الإسرائيلية رغم وحشيتها قد لا ترقى لبعض الاراء القانونيه إلى مستوى الإبادة الجماعية، حيث قاموا بتصنيفها على أنها عدوان غير قانوني أو غير مشروع لأنها لا تتناسب مع حجم الهجوم الذي شنته حماس يوم 7 أكتوبر2023 ، ولا توصف بأنها جريمة إبادة جماعية ومن ثم قد تواجه جنوب أفريقيا بعض الصعوبات القانونية في إثبات وجود نية الإبادة بشكل شامل وقاطع.
ثانياً: بالنسبة لإسرائيل ستفتح هذه الدعوى المجال أمام الخوض في بعض القضايا القانونية والتاريخية التي حاولت إسرائيل تجنب الخوض فيها منذ عقود وبينما يركز ادعاء جنوب أفريقيا على تصرفات إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023 ، فإن ورقة الادعاء أدرجت – بمهارة – القضية الفلسطينية بشكل عام والسياق الأوسع لسلوك إسرائيل تجاه الفلسطينيين خلال حكم الفصل العنصري الذي دام 75 عاما واحتلالها لاراضي الفلسطينيه غير القانوني المستمر منذ عام 1956 وحصارها لقطاع غزة الذي استمر 16 عام ولذلك فإن البت في هذه القضية سيستلزم بالضرورة النظر في بعض المسائل القانونية الشائكة والمحرجة لإسرائيل، مثل ما إذا كانت فلسطين دولة بالمعنى القانوني وما إذا كان يمكن اعتبار حماس ممثلة لفلسطين في قطاع غزة وما إذا كانت إسرائيل تتمتع بالصلاحية اللازمة وحق الدفاع عن نفسها ضد كيان لا يعتبر دولة وما إذا كانت غزة لا تزال أرضاً محتلة من الناحية القانونية.
واذكر على سبيل المثال لا يعترف القانون الدولي العرفي بالدفاع عن النفس الا ضد الدول ذات السيادة وبالتالي لا يمكن تبرير العدوان الإسرائيلي الحالي على قطاع غزة باعتباره دفاعاً عن النفس بالمعنى التقليدي للقانون الدولي لأن إسرائيل لا تعترف بفلسطين كدولة، ولذلك فإن دفاع إسرائيل عن نفسها لا يمكن أن يؤخذ بعين الاعتبار إلا في سياق قواعد القانون الدولي للاحتلال ، وإذا تم بحث مسألة الدفاع عن النفس من هذا المنظور فإن المحكمة ستتناول بالضرورة مسألة حصار إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة وتسويته القانونية وهذا الحصار (باعتباره احتلالاً فعلياً)، ومدى شرعيته وعلاقته السببية بالهجوم الذي نفذته حركة حماس في 7 أكتوبر 2023 ، كلها قضايا نفتها إسرائيل منذ زمن طويل عبر خطابها الإعلامي الذي يتلاعب باللغة والسياسة والمصطلحات الغير منضبطه ، لكن هذه الدعوى ستضع حداً لهذه السياسه الغير منضبطه وتصدر حكماً قضائياً دولياً يكون ملزماً ليس فقط في صيغته (بغض النظر عن نتيجة الحكم) بل ملزماً أيضاً في أسبابه وحيثياته.
*** طارق يوسف الشميمري، شغل منصب مستشار ورئيس اللجنة المالية ورئيس لجنة الميزانية العامة في محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي (PCA) ومراقب في المجلس الإداري ومرقب بمحكمة العدل الدوليه ومستشار في سفارة دولة الكويت بهولندا خلال هذه الفترة من 2013 إلى 2020.
البريد الإلكتروني:
tareq@alshumaimry.com