عبد الحميد حميد الكبي
في قلب آسيا الوسطى، حيث تلتقي السهوب الشاسعة بأفق المدن الحديثة، تتقدم كازاخستان بخطى واثقة لتصبح وجهة المستقبل للرحالة الرقميين. مع إطلاق تأشيرة “نيو نوماد” في الأول من نوفمبر 2024، تُعيد هذه الدولة الطموحة تعريف مفهوم العمل عن بُعد، مقدمةً دعوة مفتوحة للمحترفين العالميين للعيش والعمل في بيئة تجمع بين التراث الثقافي العريق والتطور التكنولوجي المتسارع.
هذه التأشيرة، التي تحمل تصنيف B12-1، ليست مجرد وثيقة سفر، بل رؤية استراتيجية تهدف إلى جعل كازاخستان مركزًا عالميًا للابتكار والتبادل الثقافي.
لذلك تأشيرة “نيو نوماد” تمثل نقلة نوعية في عالم الهجرة الرقمية، مصممة للمحترفين الذين يسعون للجمع بين العمل عن بُعد وتجربة السفر الثقافي.
تتيح هذه التأشيرة الإقامة في كازاخستان لمدة تصل إلى عام، مع إمكانية التمديد لعام إضافي، مما يمنح الرحالة مرونة استثنائية لتحقيق التوازن بين الحياة المهنية والاستكشاف.
ما يجعل هذه التأشيرة فريدة هو إعفاؤها حامليها من الالتزامات الضريبية المحلية، شريطة أن يكون مصدر دخلهم من خارج البلاد، مما يجعلها خيارًا جذابًا للمحترفين ذوي الدخل المستقر من مصادر أجنبية.للتأهل، يجب على المتقدمين تقديم وثائق دقيقة كشوف حسابات بنكية للأشهر الستة الماضية تثبت دخلًا شهريًا يتجاوز 3000 دولار، إقرارات ضريبية من بلد جنسيتهم، بيان سجل جنائي من السلطات المختصة، وتأمين صحي شامل يغطي فترة الإقامة.
وفي خطوة ذكية، ألغت كازاخستان شرط خطاب الدعوة لمواطني 48 دولة معتمدة مسبقًا، مما يسهل الوصول إلى البرنامج. وفقًا لموقع “كازاخستان ترافل”، تستغرق معالجة الطلبات خمسة أيام عمل فقط، مما يعكس كفاءة إدارية نادرة في عالم التأشيرات.
ما يزيد من جاذبية التأشيرة هو شموليتها، حيث تتيح لأفراد عائلة حامل التأشيرة الرئيسي الإقامة لنفس المدة، مما يجعل كازاخستان وجهة مثالية للعائلات الباحثة عن تجربة حياة جديدة.
تضمن هذه المرونة، إلى جانب البنية التحتية الرقمية المتطورة وتكاليف المعيشة المعقولة، أن تكون كازاخستان منافسًا قويًا لوجهات عالمية مثل دبي أو لشبونة. من أستانا النابضة بالحداثة إلى ألماتي الغنية بالثقافة، تقدم كازاخستان بيئة تجمع بين الراحة الحضرية والجمال الطبيعي.
في الثاني من ديسمبر 2024، سجلت كازاخستان إنجازًا تاريخيًا بمنح أول تأشيرة “نيو نوماد” لسيرتاك ينر، الخبير البريطاني في مجال الطاقة والمالية، عبر سفارتها في الإمارات العربية المتحدة. ينر، الذي يقود مشاريع طاقة نظيفة في الولايات المتحدة، لم يكن مجرد متقدم عادي؛ فقد أعرب عن شغفه العميق بالثقافة الكازاخستانية، مستلهمًا من دراسات ابنته في اللغة الكازاخية وآسيا الوسطى بجامعة شيكاغو.
في تصريح ملهم، قال ينر: “تأشيرة نيو نوماد تتيح لي العمل عن بُعد بينما أغوص في جمال كازاخستان ودفئها وتقاليدها العريقة”.قصة ينر ليست مجرد قصة فردية، بل رمز لنجاح كازاخستان في جذب محترفين ذوي رؤية عالمية. إن منح التأشيرة الأولى في غضون شهر من إطلاق البرنامج يعكس الكفاءة الإدارية والالتزام برؤية طموحة.
تقدم كازاخستان للرحالة تجربة غامرة تجمع بين العمل والاستكشاف. قصة ينر تُظهر كيف يمكن لتأشيرة “نيو نوماد” أن تكون جسرًا بين الطموح المهني والشغف الثقافي.الدور الاستراتيجيي
تأشيرة “نيو نوماد” هي جزء من استراتيجية شاملة تهدف إلى ترسيخ مكانة كازاخستان كمركز عالمي للابتكار والمواهب.
بمبادرة من الرئيس قاسم جومارت توكاييف، طُورت هذه التأشيرة بالتعاون مع وزارتي الخارجية والداخلية وهيئة السياحة الكازاخستانية، بهدف جذب محترفين من مختلف القطاعات.
إلى جانب “نيو نوماد”، أطلقت كازاخستان تأشيرتي “Digital Nomad (B9-1)” و”الإقامة الدائمة (B9)”، مما يعكس رؤية متكاملة لاستقطاب المهنيين في مجالات التكنولوجيا، الطب، العلوم، والصناعات الإبداعية.تأشيرة “Digital Nomad (B9-1)” تستهدف المحترفين في قطاع تكنولوجيا المعلومات الذين يسعون للإقامة الدائمة، بينما توفر تأشيرة “B9” مسارًا للمهنيين ذوي المهارات العالية في مجالات مثل الطب والتعليم.
هذه التأشيرات ليست مجرد أدوات هجرة، بل استثمارات في رأس المال البشري. من خلال جذب الرحالة الرقميين، تسهم كازاخستان في تحفيز اقتصادها، حيث ينفق هؤلاء المحترفون على السكن، النقل، والخدمات المحلية، مما يعزز السياحة والاقتصاد الإبداعي دون الضغط على سوق العمل المحلي.
موقع كازاخستان الجغرافي الاستراتيجي، الذي يربط بين أوروبا وآسيا، يجعلها مركزًا مثاليًا للمحترفين الذين يسعون للوصول إلى أسواق متعددة. البنية التحتية الرقمية المتطورة، بما في ذلك الإنترنت عالي السرعة ومراكز الابتكار مثل Astana Hub، تضمن بيئة مواتية للعمل عن بُعد. إضافة إلى ذلك، تقدم كازاخستان تكاليف معيشة تنافسية مقارنةً بالوجهات الغربية، مما يجعلها خيارًا اقتصاديًا وجذابًا للرحالة الرقميين.
تحليل رؤية اقتصادية وثقافية تأشيرة “نيو نوماد” تمثل استثمارًا ذكيًا في المستقبل، حيث تجمع بين الفوائد الاقتصادية والثقافية. من الناحية الاقتصادية، يسهم البرنامج في تعزيز السياحة وزيادة تدفق رأس المال البشري، مما يدعم النمو الاقتصادي.
الإعفاء من الضرائب المحلية يعكس فهمًا عميقًا لاحتياجات الرحالة الرقميين، بينما تضمن المتطلبات الصارمة، مثل إثبات الدخل والتأمين الصحي، استقطاب أفراد ذوي كفاءة عالية.
من الناحية الثقافية، يعزز البرنامج التبادل الثقافي، حيث يجلب الرحالة أفكارًا وخبرات جديدة، بينما يتعرفون على التراث الكازاخستاني الغني، من الموسيقى التقليدية والمطبخ إلى المهرجانات الثقافية مثل “نوروز”.
ومع ذلك، تواجه المبادرة تحديات محتملة. على سبيل المثال، قد تحتاج كازاخستان إلى تطوير البنية التحتية في المناطق الريفية لتلبية احتياجات الرحالة الباحثين عن تجارب طبيعية.
كما أن الترويج العالمي للبرنامج يتطلب جهودًا مكثفة لزيادة الوعي بمزايا كازاخستان مقارنةً بوجهات مثل إستونيا أو البرتغال. لكن النجاح المبكر، كما في حالة سيرتاك ينر، يُظهر أن البرنامج يمتلك الإمكانيات لتحقيق تأثير عالمي.
مستقبل التأشيرة طموح يتجاوز الحدودمع استمرار نمو الاقتصاد الرقمي العالمي، تتموضع كازاخستان كواحدة من الوجهات الرائدة للرحالة الرقميين.
التوقعات تشير إلى أن برنامج “نيو نوماد” سيجذب آلاف المحترفين خلال السنوات القادمة، مدعومًا بخطط لتوسيع البنية التحتية الرقمية وزيادة الاستثمارات في قطاعات التكنولوجيا والسياحة.
المزيج الفريد الذي تقدمه كازاخستان – من المدن الحديثة مثل أستانا وألماتي إلى المناظر الطبيعية الخلابة مثل بحيرة قيندي وجبال آلتاي – يجعلها وجهة مثالية لأولئك الذين يبحثون عن توازن بين العمل والمغامرة.
في المستقبل، قد تتطور التأشيرة لتشمل برامج إضافية لدعم رواد الأعمال والمستثمرين، مما يعزز من مكانة كازاخستان كمركز للابتكار. التعاون مع شركات التكنولوجيا العالمية ومراكز الابتكار مثل Astana Hub قد يفتح آفاقًا جديدة لدمج الرحالة في النظام الاقتصادي المحلي، مما يعزز الابتكار والنمو.
رؤية ملهمة لمستقبل مشرق تأشيرة “نيو نوماد” ليست مجرد سياسة هجرة، بل رؤية ملهمة تعكس طموح كازاخستان لتصبح مركزًا عالميًا للابتكار والتبادل الثقافي.
للمسؤولين الكازاخستانيين، هي شهادة على نجاحهم في بناء جسور بين الشرق والغرب، وللقارئ العربي، هي دعوة لاكتشاف وجهة تجمع بين الحداثة والتراث.
سواء كنت محترفًا يبحث عن قاعدة جديدة، أو عائلة تسعى لتجربة حياة ملهمة، أو مغامرًا يرغب في استكشاف قلب آسيا الوسطى، فإن كازاخستان تقدم وعدًا لا يُقاوم: انضم إلى ثورة الرحالة الرقميين، واجعل هذا البلد الديناميكي موطنك القادم.

