(كونا) – بعدما أكمل رسالتھ وأدى أمانتھ وقاد سفینة الكویت وسط بحار مشتعلة من التوترات الإقلیمیة والعالمیة استطاع بحنكتھ أن یجنب بلاده إیاھا وأن یشق لھا طریقا آمنا محفوفا بالسلام والمحبة من العالم رحل حضرة صاحب السمو أمیر البلاد الشیخ صباح الأحمد الجابر الصباح الیوم الثلاثاء لتفقد الكویت قائدا فذا قاد مسیرة تنمیتھا وازدھارھا خلال ال14 عاما الماضیة وخلد اسمھا في المحافل الإقلیمیة والعربیة والعالمیة. وعلى وقع أنین الكویت على رحیل أمیرھا وقائد نھضتھا تتداعى أحزان البیت الخلیجي الذي كان سموه رحمھ الله حریصا على رأب ما نالھ من تصدع وجمع ما أصابھ من شتات لتتسع دائرة الحزن إلى الوطن العربي قاطبة الذي فقد برحیل صاحب السمو قائدا حكیما كثیرا ما كان حریصا على تعزیز صفوف دولھ وتمتین وحدتھا وإعلاء كلمتھا ووأد الخلاف بینھا فضلا عن أحزان الإنسانیة كلھا التي فقدت بفقدانھ أمیرھا الذي لم یبخل على مصاب سمع بھ في مختلف أرجاء العالم حتى غدت الكویت في عھده قبلة للمساعدات الإنسانیة والوقفات النبیلة مع المصابین وذوي الكوارث بغض النظر عن أجناسھم وأعراقھم وأدیانھم.
ومنذ أن تولى سموه دفة الحكم في البلاد یوم 29 ینایر 2006 حرص على السیر على النھج الحكیم الذي سار علیھ قادة الكویت طوال العقود الماضیة في أداء دور فاعل في مسیرة الأمن والاستقرار في المنطقة ودرء الخلافات بین دولھا وتحقیق السلام في مجتمعاتھا. وعلى الصعید الداخلي قاد سمو الأمیر الراحل البلاد نحو التطور والتنمیة والازدھار في مرحلة صعبة شھدت فیھا المنطقة تحدیات كبیرة واھتم ببناء الإنسان باعتباره أثمن الموارد التي یملكھا الوطن وعماد نھضتھ وتطوره ورخائھ. وحظي سمو الأمیر الراحل حین تولى دفة الحكم باعتباره الحاكم الخامس عشر لدولة الكویت بتأیید شعبي ورسمي كبیر وتمت مبایعتھ بالإجماع من أعضاء السلطتین التنفیذیة والتشریعیة في ذلك الیوم المیمون من ینایر لیصبح أول أمیر منذ عام 1965 یؤدي الیمین الدستوریة أمام مجلس الأمة.
وكثیرا ما عرف سمو الأمیر الراحل بانتھاج سیاسة حكیمة حافظ من خلالھا على مكانة متمیزة للكویت في محطیھا الخلیجي والعربي والدولي وشھد العالم بأسره نجاحاتھ الدبلوماسیة في نصرة القضایا العادلة للشعوب وحمایة الدولة من أي تأثیر یھدد كیانھا والوصول بھا إلى بر الأمان في ظل محیط مضطرب بالتھدیدات. وإذا كانت البلاد قد عاشت تحت قیادة سموه الحكیمة خلال السنوات الأربع عشرة الماضیة فقد سبقتھا عقود من العمل الرسمي لسموه تبوأ خلالھا عددا من المناصب التي ساھم عبرھا في تعزیز مسیرة بناء الوطن وتوطید أركانھ وترسیخ مكانتھ. وفقید الكویت ھو الابن الرابع للشیخ أحمد الجابر الصباح الذي توسم في نجلھ الفطنة والذكاء منذ صغر سنھ فأدخلھ المدرسة المباركیة ثم أوفده إلى بعض الدول للدراسة واكتساب الخبرات والمھارات التي ساعدتھ على ممارسة العمل بالشأن العام.
وبدأت مسیرة العطاء لسمو الأمیر الراحل في عام 1954 حینما عین عضوا في اللجنة التنفیذیة العلیا التي عھد إلیھا آنذاك مھمة تنظیم مصالح الحكومة ودوائرھا الرسمیة. وفي عام 1955 تولى سموه منصب رئیس دائرة الشؤون الاجتماعیة والعمل فعمل على تنظیم العلاقة بین العمال وأصحاب العمل لاسیما في ضوء تدفق الھجرات الخارجیة من الدول العربیة والأجنبیة للعمل في الكویت واستحداث مراكز التدریب الفني والمھني للشباب ورعایة الطفولة والأمومة والمسنین وذوي الاحتیاجات الخاصة وتشجیع الجمعیات النسائیة والاھتمام بالریاضة وإنشاء الأندیة الریاضیة.
وأولى فقید الكویت اھتماما بالفنون وعلى رأسھا المسرح فأنشأ أول مركز لرعایة الفنون الشعبیة في الكویت عام 1956 وفي عام 1957 أضیفت إلى مھام سموه رئاسة دائرة المطبوعات والنشر إذ عمل على إصدار الجریدة الرسمیة للكویت )الكویت الیوم( وتم إنشاء مطبعة الحكومة لتلبیة احتیاجاتھا من المطبوعات ووقتھا تم إصدار مجلة )العربي(. وأبدى سمو الأمیر الراحل اھتماما كبیرا بإحیاء التراث العربي وإعادة نشر الكتب والمخطوطات القدیمة وتشكیل لجنة خاصة لمشروع )كتابة تاریخ الكویت( وإصدار قانون المطبوعات والنشر الذي كان لھ دور ممیز في تحقیق الصحافة الكویتیة مكانة مرموقة بین مثیلاتھا في الدول العربیة لما تتصف بھ من حریة وموضوعیة واتزان.
وبعد استقلال دولة الكویت عام 1961 عین سموه عضوا في المجلس التأسیسي الذي عھدت إلیھ مھمة تشكیل لجنة وضع دستور البلاد ثم عین في أول تشكیل وزاري عام 1962 وزیرا للإرشاد والأنباء. وفي 28 ینایر 1963 وبعد إجراء أول انتخابات تشریعیة لاختیار أعضاء مجلس الأمة عین فقید الكویت وزیرا للخارجیة لتبدأ مسیرة سموه مع العمل السیاسي الخارجي والدبلوماسیة التي برع فیھا فاستحق لقب مھندس السیاسة الخارجیة الكویتیة وعمید الدبلوماسیین في العالم بعد أن قضى 40 عاما على رأس تلك الوزارة ربانا لسفینتھا في أصعب الظروف والمواقف السیاسیة التي شھدتھا البلاد. ویستذكر الكویتیون بكل فخر الدور الكبیر للشیخ صباح الأحمد عندما كان وزیرا للخارجیة حین رفع سموه علم الكویت فوق مبنى الأمم المتحدة بعد قبولھا عضوا فیھا في 11 مایو 1963.
وتجدر الإشارة إلى دور سموه منذ نحو 54 عاما في جمع الأشقاء وسعیھ الدؤوب لحل الخلافات عندما شارك في اللقاء الذي نظمتھ الأحزاب المتنافسة في الیمن مع ممثلي مصر والسعودیة لوضع حد للحرب الأھلیة ھناك والتي استأنفت اجتماعاتھا في الكویت في أغسطس 1966. وعندما تدھورت العلاقة بین الیمن الجنوبي والیمن الشمالي وبدأت الصدامات بینھما على الحدود المشتركة قام سموه بزیارة للدولتین في أكتوبر 1972 أثمرت توقیع اتفاقیة سلام بینھما. وقام فقید الكویت في عام 1980 بوساطة ناجحة بین سلطنة عمان وجمھوریة الیمن الدیمقراطیة نتج عنھا توقیع اتفاقیة خاصة بإعلان المبادئ ثم وجھ سموه الدعوة لوزیري الخارجیة في الدولتین لزیارة الكویت عام 1984 حیث اجتمع الطرفان على مائدة الحوار وتوصلا إلى إعلان انتھاء الحرب الإعلامیة بینھما واحترام حسن الجوار وإقامة علاقات دبلوماسیة.
واختط سمو الأمیر الراحل منذ نحو خمسة عقود منھجا واضحا للسیاسة الخارجیة لدولة الكویت استطاع من خلالھ أن یتخطى بالكویت مراحل حرجة في تاریخھا من خلال انتھاج مبدأ التوازن في التعامل مع القضایا السیاسیة ومن أبرزھا الحرب العراقیة الإیرانیة التي استمرت من عام 1980 حتى عام 1988 وما نتج عنھا من تداعیات أثرت على أمن الكویت واستقرارھا داخلیا وخارجیا.
وبذل سموه طوال سنوات قیادتھ لوزارة الخارجیة جھدا كبیرا في تعزیز وتنمیة علاقات الكویت الخارجیة مع مختلف دول العالم وخصوصا الدول الخمس الدائمة العضویة في مجلس الأمن. وشھدت البلاد نتیجة ذلك استقرارا في سیاستھا الخارجیة وثباتا اتضحت ثماره في الثاني من أغسطس عام 1990 عندما وقف العالم أجمع مناصرا للحق الكویتي في وجھ العدوان العراقي والذي أثمر صدور قرار مجلس الأمن رقم 678 الذي أجاز استخدام كل الوسائل بما فیھا العسكریة ضد العراق ما لم یسحب قواتھ من الكویت. ولعل احتضان دولة الكویت الیوم لعشرات الممثلیات الدبلوماسیة على أراضیھا من سفارات وقنصلیات ومراكز لمنظمات دولیة وإقلیمیة لھو دلیل ناصع على نجاح سیاسة فقید الكویت الدبلوماسیة وحسن قیادتھ للسیاسة الخارجیة الكویتیة. ونظرا إلى ما یتمتع بھ من فطنة وذكاء وقدرة فائقة على تحمل المسؤولیة فقد أسندت إلى سمو الأمیر الراحل مناصب عدة إضافة الى منصب وزیر الخارجیة إذ عین وزیرا للإعلام بالوكالة في الفترة من 2 فبرایر 1971 وحتى 3 فبرایر 1975 وفي 16 فبرایر 1978 عین نائبا لرئیس مجلس الوزراء وفي 4 مارس 1981 تسلم حقیبة الإعلام بالوكالة إضافة إلى وزارة الخارجیة حتى 9 فبرایر 1982.
وفي 3 مارس 1985 عین رحمھ الله نائبا لرئیس مجلس الوزراء ووزیرا للخارجیة حتى 18 أكتوبر 1992 عندما تولى منصب النائب الأول لرئیس مجلس الوزراء ووزیر الخارجیة. وفي 13 یولیو 2003 صدر مرسوم أمیري بتعیین فقید الكویت رئیسا لمجلس الوزراء وھي المرة الأولى في تاریخ الكویت التي یتم فیھا الفصل بین منصبي ولایة العھد ورئاسة مجلس الوزراء. ولم یقتصر نجاح سمو الأمیر الراحل عند السیاسة الخارجیة فقط بل استمر ھذا العطاء والنجاح عند تولیھ قیادة دفة السیاسة الداخلیة للبلاد فقد حرص منذ اللحظات الأولى لتولیھ منصب رئاسة الوزراء على تبني رؤیة شاملة وعمیقة للتنمیة في الكویت تشمل مختلف قطاعات الدولة وعلى رأسھا القطاع الاقتصادي.
ولتعزیز تلك الرؤیة وتنفیذھا قام سموه بتشجیع القطاع الخاص وفتح فرص العمل الحر أمام الشباب الذین وضعھم سموه في مقدمة اھتماماتھ ورعایتھ من خلال دعم المشروعات الصغیرة سعیا إلى تحقیق الھدف الأمثل الذي سعى إلیھ وھو تحویل البلاد إلى مركز مالي وتجاري إقلیمي لتستعید الكویت دورھا التاریخي كلؤلؤة الخلیج. واستمر فقید الكویت في مسیرة العطاء رئیسا للحكومة الكویتیة حتى ینایر عام 2006 عندما اجتمع مجلس الوزراء واتخذ قرارا بالإجماع بتزكیة سمو الشیخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمیرا للبلاد وفقا للمادة 3 من قانون توارث الإمارة الصادر عام 1964.
وانطلاقا من ھذا القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء ومن مبایعة أسرة آل الصباح عرض الأمر وفقا للدستور على مجلس الأمة الذي عقد جلستین یوم الأحد 29 ینایر 2006 خصصت الأولى لمبایعة أعضاء مجلس الأمة لسمو الشیخ صباح الأحمد أمیرا للبلاد في حین خصصت الجلسة الثانیة لتأدیة سموه القسم الدستوري أمام المجلس بحضور جمیع أعضاء مجلس الوزراء. ومنذ ذلك الیوم التاریخي بدأت أسطر جدیدة تكتب في تاریخ الكویت وفي مسیرة سمو الأمیر الراحل في قیادة الكویت اذ استمر في تكریس رؤیتھ الثاقبة