نزار عثمان السمندل
ستة وعشرون عاماً مرّت، منذ أن قال الملك محمد السادس كلمته الأولى لشعبه. لم تكن الكلمة وعداً فوقيّاً، بل تعهّداً مفتوحاً بإعادة التأسيس، على أرضية صلبة من الثوابت، ومنطلقات منفتحة على زمن يتغير بلا استئذان: أن تكون المملكة المغربية منتمية للعصر، لكن دون أن تتخلى عن روحها. أن يكون الحكم مركزياً في رمزيته، لكن لا مركزياً في إنصاته للمناطق. أن تكون التنمية أفقاً لا حصّة، والعدالة الاجتماعية فلسفة لا شعاراً.
كان ذلك في الثلاثين من يوليو 1999. ومنذئذٍ، لم تتوقف المسيرة. ما تحقق على امتداد هذه السنوات، ليس إنجازاً تقنياً يمكن اختصاره في أرقام أو تقارير، بل هو تحوّل بنيوي في وعي الدولة وموقعها، وفي علاقتها بمواطنيها ومحيطها. فقد اختار الملك أن يكون عهده عهداً للمصالحة: بين الدولة والماضي، بين المواطن ومؤسسات الحكم، بين الحاضر وجراح الذاكرة.
تجربة الإنصاف والمصالحة لم تكن فقط جبراً للضرر، بل كانت تمريناً وطنياً على كيفية العبور من الألم إلى البناء، ومن المحاسبة إلى التشارك في صناعة المستقبل. لقد أعادت تلك التجربة تعريف معنى السلطة في المغرب: لا قطيعة، ولا انتقام، بل عقلٌ جديد يحتضن التعدد ويحمي الوحدة.
في عهده، لا يلتفت المغرب إلى الوراء بحثاً عن أمجادٍ غابرة، بل يحدّق في مرآة تاريخه كي يضبط إيقاع مستقبله. ليس عيد العرش مجرّد احتفال برمزية الجلوس، بل هو تجديد للعهد بين مشروعين: مشروع ملك لا يكفّ عن إعادة تعريف السلطة، ومشروع شعب لا يملّ من إعادة بناء الأمل.
وفي كل خطاب من خطابات العرش، ينقّب الملك عن المعنى، لا عن المجاملة. يبني من اللغة ما يشبه الخريطة، ومن العبارات ما يحاكي الجسر بين الدولة والمواطن. وفي خطابه الأخير، لم يكن الاستثناء.
“أجدد الدعوة لإخواننا في الجزائر لحوار مباشر وصريح، أخوي ومسؤول”، قالها الملك، لا بلهجة المُزايد، بل بنبرة من يملك رفاهية التاريخ وثقة الجغرافيا وضمانات الالتفاف الشعبي.
لم تكن الرسالة مجرّد امتداد لبروتوكول سنوي، بل إعلان نوايا صادقة من عاهلٍ يعرف أن قَدَر المغرب لن يُكتمل ما لم يتحرر من عبء القطيعة، وأن الاتحاد المغاربي ليس ترفاً بل ضرورة، وأن المصالحة لا تكون إلا بإخراج السياسة من ثوبها الانفعالي إلى ثوبها العقلاني.
الملك لا يطرح على الجزائر خطاب مهادنة، بل رؤية مشتركة للاستقرار. يرى في الجوار فرصة لا خصومة، وفي الصحراء ملفاً وطنياً لا سكيناً في خاصرة الأخوّة.
والمفارقة أن الرجل الذي ربح معركة الاعتراف الدولي بمقترح الحكم الذاتي، لا يلهث وراء التصعيد، بل يدعو إلى ضبط النفس، وإلى ترك ملفات الخلاف في عُهدة المؤسسات الدولية، بينما تواصل شعوب المنطقة كتابة فصول جديدة من التنمية والتكامل.
في الداخل، لا يتحدّث محمد السادس عن المغرب كمنجز مُكتمل، بل كمسار مفتوح على السؤال: هل يكفي النمو إذا لم يتحوّل إلى عدالة؟ هل تُقاس الدولة بالبنى التحتية، أم بقدرتها على تضميد هشاشاتها؟ وهل يصحُّ الحديث عن مغربٍ صاعدٍ إذا بقيت مناطق منه تسير بسرعة السلحفاة؟
“لن أكون راضياً ما لم تنعكس التنمية على حياة المغاربة جميعًا”، قالها الملك بوضوح من يعرف أن شرعية الحكم ليست فقط في الركون إلى منجزات الماضي، بل في الإنصات للمُهمَّش، وفي تحويل الأرقام إلى كرامة يومية.
ولذلك، يعود خطاب العرش ليؤكد الالتزام العميق بالعدالة المجالية، وبمحو الفوارق، وبالارتقاء من الاقتصاد الحسابي إلى الاقتصاد الإنساني، ومن الدولة المركزية إلى دولة الإنصاف.
عيد العرش ليس محطةً للاحتفاء بالماضي فقط، بل لحراسة الرؤية. والمغرب، في زمن الاضطرابات التي تعصف بالإقليم، قدّم نموذجاً نادراً: دولة تقودها مؤسسات لا تنكسر تحت ضغط الأزمات، وسلطة تتسلح بالاعتدال لا بالثأر، وقيادة تنحاز لنهج السلام من موقع العزّة، لا من موضع التنازل.
في كلّ مرّة يثبت المغرب أنه قادر على أن يكون دولةً دون ضجيج، وصوتاً مسموعاً دون صراخ. لا يُناور بالتحالفات، بل يبني شراكاتٍ تحترم سيادته وتمنحه هامش المناورة دون أن يُفرّط: من لجنة القدس إلى مبادرات الإغاثة، من الوساطة في النزاعات إلى بناء نموذج استقرار بلا مثيلٍ في شمال أفريقيا.
لهذا لا يُقرأ خطاب العرش كمقالٍ سياسي، بل كوثيقة استبصار. الملك لا يكتفي بوصف الواقع، بل يعيد تأطيره أخلاقياً: يربط الاقتصاد بالمسؤولية، والسيادة بالثقة، والتنمية بالإنصاف. ومن بين سطور الخطاب، يطلّ مشروع طويل الأمد: مغربٌ لا يتوسّل الرضا، بل يصنعه، ولا ينتظر التحولات، بل يقودها.
إنه عيد العرش، نعم. لكنه أيضاً عيد الدولة التي تُجدّد التزامها بالوعد. الدولة التي تُصغي إلى نبض شعبها، وتتفاعل مع إيقاع التاريخ، وتنتصر لما تراه حقاً وعدلاً واستقراراً.
وهو عيد المواطن الذي يطالب بمزيد من العدالة، وعيد المستقبل الذي يُصرّ المغاربة على كتابته بأيديهم، مع ملكهم، على مرأى من العالم… بصمت العقلاء.