Site icon Q8-Press

القطب الشمالي… من يملكه ومن له حق التصرف في ثرواته؟

قاعدة عسكرية أميركية قطبية تعود لخمسينيات القرن الماضي (غيتي)

اندبندت – عربية – إميل أمين كاتب وباحث

هل باتت منطقة القطب الشمالي إحدى المناطق الساخنة المرشحة للانفجار، على الرغم من برودة الأجواء، والثلوج التي تغمرها طوال أيام السنة؟

يبدو أن ذلك كذلك، لا سيما بعد التحذيرات التي أطلقها سفير المهام الخاصة لشؤون التعاون الدولي في منطقة القطب الشمالي بوزارة الخارجية الروسية، نيكولاي كورتشونوف، في الأسبوع الأول من شهر فبراير (شباط) الحالي، والتي أشار فيها إلى أن هناك محاولات حثيثة تجري من بعض البلدان مؤخراً بهدف بسط القوة العسكرية في المنطقة، وزيادة بنيتها التحتية العسكرية في دول القطب الشمالي الأخرى بمساعدة الناتو.

والشاهد أن التصريح الروسي المتقدم جاء بعد إعلان وزير البحرية الأميركية، كينيث بريثويت، في منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي، بأن القوات الأميركية ستسير دوريات منتظمة قبالة الشواطئ الروسية في القطب الشمالي، وهو ليس الإعلان الأول من نوعه، ففي عام 2009 اعتمدت واشنطن خريطة طريق القطب الشمالي لتوسيع العمليات البحرية في المنطقة.

من يملك القطب الشمالي؟

لعل السؤال الأولى الذي يتوارد على الأذهان، هو من يملك القطب الشمالي؟ ومن له حق التصرف في ثرواته؟ وما هو قابع في جوفه من مصادر تمثل كنوزاً للشعوب المشاطئة؟

تبدو إشكالية تلك المنطقة معقدة بشكل ما، ذلك أن هناك خمس دول فحسب مشاطئة تمتد على المحيط المتجمد الشمالي، وهي: روسيا، وأميركا، وكندا، والدنمارك، والنرويج، لكن هناك دولاً متداخلة مع المنطقة، مثل فنلندا، والسويد، وإيسلندا، عطفاً على الدول ذات الحظوة الاقتصادية الكبرى، مثل الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية، ودول أوروبا الغربية.

وينظم العلاقة بين الدول الخمسة المشاطئة قانون البحار المتمثل في اتفاقية حقوق الملكية في الجرف القاري الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1982.

والمعروف أن المعاهدات الدولية تفيد بأنه لا أحد يملك القطب الشمالي، بل إن كل دولة لها حدود تمتد إلى 200 ميل بحري، والباقي يعد مياهاً دولية، وهو ما يبدو أن روسيا وكندا وأميركا والدنمارك والنرويج لم تقتنع به، فقامت كل منها بمد حدودها شمالاً للمطالبة ببعض الأراضي من حولها على أمل الاستفادة من ثروات القطب الشمالي، والتي بدأت التغيرات المناخية تميط اللثام عنها مؤخراً.

ذوبان الثلوج وظهور الثروات

يبدو جلياً أن هناك علاقة ما وثيقة بين التغيرات المناخية، والتي تجتاح كوكب الأرض، لا سيما الاحتباس الحراري، ذاك الذي أدى إلى ذوبان كتل كبيرة من ثلوج القطب الشمالي، وبين ظهور الثروات الطبيعية الراقدة في الأعماق.

وشهد عام 2000 صدور أول تقرير عن دائرة المسح الجيولوجي الأميركية، ورجح أن القطب الشمالي يحتوي على نحو 25 في المئة من الاحتياطات العالمية غير المكتشفة من النفط والغاز، إلى جانب احتياطي كبير من الماس والذهب والبلاتين والقصدير والمنغنيز والنيكل والرصاص، وبحديث الأرقام التي لا تكذب ولا تتجمل، فإن هناك نحو 90 مليار برميل من النفط، وهي كمية كافية لتغطية الطلب الأميركي على النفط خلال 12 عاماً ونحو 50 تريليون متر مكعب من الغاز.

من هذه الأرقام المتقدمة يفهم أن هناك صراعاً كونياً هائلاً، قائماً وقادماً، على ما في جوف القطب الشمالي، لا سيما أن الموارد التقليدية للطاقة في الدول الكبرى، ربما تكون في بدايات فترات النضوب بعد استخدام غير رشيد يقترب من مئة عام.

الروس وعسكرة القطب الشمالي

يوماً تلو الآخر تبدو عسكرة القطب الشمالي واقع حال، من كل الأطراف، الأمر الذي رصده سكوت بورجيسون، الباحث الرئيس في مجلس العلاقات الخارجية الأميركية، والذي أشار مؤخراً إلى أن التحرك الروسي في قاع المحيط المتجمد الشمالي، وإلقاء كبسولة معدنية تحمل العلم الروسي، قد أثار اهتماماً عالمياً، لا سيما أنه ذكر الناس بما سماه الحقبة الاستعمارية البائدة، والتي كانت فيها القوى الكبرى تتنافس على حيازة الأراضي الجديدة، في حين أن المستكشف الروسي الشهير أرتور شيلنغاروف، الذي يقود الحملة الاستكشافية، يصرح بأن “القطب الشمالي لنا، وعلينا إظهار وجودنا على أرضه”.

والشاهد أن المساحة التي تدعي روسيا امتلاكها تفوق مساحة ألمانيا وفرنسا مجتمعتين، ويقول عنها أليكسي ميلشينكو، المتخصص في مركز كارنيغي بموسكو، إنها ستجعل السباق على القطب الشمالي شرساً.

وتدرك روسيا أن الشعوب تمشي على بطونها، وليس الجيوش فحسب، كما قال إمبراطور فرنسا نابليون بونابرت من قبل، ولأن الروس يقدرون القيمة الإجمالية للمعادن التي تتركز في المنطقة الروسية في القطب الشمالي بما يزيد على 30 تريليون دولار، وكون تلك المنطقة تتحول بشكل تدريجي إلى مركز ثقل إنتاج النفط والغاز الروسي، لذا نرى فلاديمير بوتين يعلن مؤخراً عن أن روسيا تعتزم زيادة وجودها في القطب الشمالي والمناطق الشمالية، ومشدداً على أن هذا أمر لا بد منه، كما وافق على استراتيجية تطوير منطقة القطب الشمالي التابعة لروسيا وضمان الأمن القومي حتى عام 2035.

وقبل نحو عامين كانت روسيا تجدد عزمها على حماية مصالحها العسكرية في منطقة القطب الشمالي بالوسائل السياسية والعسكرية على نحو سواء، وذلك عندما أعلن مدير الجهاز الإعلامي التابع للقوات البحرية الروسية أن سفينة عسكرية روسية أخرى مسلحة بالصواريخ طراز “المارشال أوستينوف”، ستنضم إلى السفينة “سيفيروموسك”، التي توجهت إلى المحيط الشمالي المتجمد.

ويرى الروس أن الأميركيين يناورن ويداورون، وهو ما دفع وزير الدفاع الروسي الأسبق بافل غراتشوف، للتساؤل “لماذا يزحف الناتو إلى شرق أوروبا مقترباً من روسيا، على الرغم من أن روسيا دخلت في شراكة من أجل السلام مع هذا الحلف، بعد أن وافقت على حل حلف كان يجابه الناتو، وهو حلف وارسو؟”. والجواب بحسب غراتشوف “إنهم يطمعون في مواردنا”.

أميركا ومناورات عسكرية

لم تكن واشنطن لتقف مكتوفة الأيدي أمام توسعات موسكو في القطب الشمالي، ولهذا فإن العالم يرصد منذ بضعة أعوام تدريبات عسكرية أميركية في ألاسكا تحديداً، استمر أحدها قبل عامين نحو 12 يوماً، بمشاركة نحو خمسة آلاف جندي وضابط، وما يزيد على 120 طائرة وعدد كبير من السفن الحربية.

ويبدو أن واشنطن لم تكتفِ بالتحرك المنفرد، بل أوعزت إلى دول شريكة وحليفة في حلف الناتو، مثل كندا والدنمارك، وفي الوقت عينه من الدول المناوئة، لوضع برامج صناعة كاسحات جليد عسكرية وإنشاء وحدات عسكرية مهيأة للعمل في عمق القطب الشمالي.

ومؤخراً بدأت واشنطن تنظيم دوريات عسكرية في منطقة القطب الشمالي بالقرب من روسيا، وقد استمعنا كذلك إلى كينيث بريثويت، وهو يتحدث عن تفكير الولايات المتحدة في استئجار كاسحات جليد من الحلفاء لتضييق الفجوة بينها وبين روسيا والصين، وهي كاسحات قادرة على المرور عبر جليد تزيد سماكته على متر واحد.

هل افتقار أميركا لكاسحات الجليد يمكن أن يعوق انتشارها العسكري في القطب الشمالي؟

بالقطع لا، ذلك لأن سفن البحرية الأميركية يمكن أن تصل إلى بحر بارنتس عن طريق ما يعرف بـ”المياه النظيفة”، ومن هناك تقع على مرمى حجر من قواعد الأسطول الشمالي الروسي، كما أن الغواصات النووية الأميركية قادرة على الاقتراب من الشواطئ الروسية، تحت جليد المحيط المتجمد الشمالي.

وتنشر الولايات المتحدة نحو 27 ألفاً من العسكريين المتمركزين في ألاسكا. ويقول قائد قوات خفر السواحل الأميرال بول زاكنفت “نحن منذ زمن بعيد منزعجون، لأن البلاد لا تملك الموارد الكافية لدعم وجودنا في القطب الشمالي”، مضيفاً أن أسطول خفر السواحل يضم كاسحتي جليد تخطاهما الزمن، وأن عدم وجود موانئ يحول دون تطور حركة الملاحة.

هل كان للصين القطب القادم أن تغيب عن الصراع الدائر حول ثروات القطب الشمالي؟

في أوائل مايو (أيار) من عام 2019، وخلال خطاب ألقاه وزير الخارجية الأميركي السابق، مايك بومبيو، أمام لقاء وزاري لدول مجلس القطب الشمالي، انتقد بومبيو ما سماه أطماع الحكومة الصينية في هذه المنطقة الغنية بالموارد والفرص الاقتصادية، ويومها قال الوزير الأميركي “إن السلوك العدواني للصين يعطينا فكرة عن طريقة تعاطيها مع منطقة القطب الشمالي”، رافضاً أن يكون لبكين أي حقوق في هذه المنطقة.

والمعروف أن بكين استثمرت بشكل كبير في القطب الشمالي، نحو 90 مليار دولار بين 2012 و2017، بحسب بومبيو، وتأمل أيضاً في الاستفادة من طريق الشمال، وهذه الطريق البحرية الواقعة شمال روسيا تختصر المسافة بين المحيطين الأطلسي والهادي، ومع ذوبان الطبقة الجليدية، بات هذا الطريق أكثر فأكثر موضوعاً على خريطة الملاحة العالمية.

ولعل ما قاله أحد أميرالات البحرية الصينية الكبار، ين زهو، يعبر عن مكنونات عقل الصين بالنسبة للقطب الشمالي، فقد أشار إلى أن بلاده تحترم حقوق السيادة لكل بلد ضمن الحدود الرسمية المعترف بها، لكن منطقة القطب الشمالي، وعلى حسب تعبيره “ليست كلها ضمن الحدود الإقليمية للبلدان المشاطئة لهذا المحيط، فهي ملك الإنسانية جمعاء، ولا يمكن لأي أمة الادعاء بالسيادة على أجزاء خارج حدودها الإقليمية”.

ولعل المثير والخطير أيضاً في تفكير الصينيين هو إشارتهم إلى أن تعداد سكانهم يمثل خمس سكان العالم، ومن هذا المنطلق فإن للصين الحق في خمس الثروات الطبيعية في منطقة القطب الشمالي، خارج الحدود الإقليمية للدول المشاطئة.

هذا التفكير الصيني لا يمكن أن تقبله واشنطن، ولهذا يبدو أن هناك تنسيقاً صينياً روسياً لمواجهة القطبية الأحادية الأميركية، فقد كشف مؤخراً مسؤول رفيع في وزارة الخارجية الصينية، عن أن بكين وموسكو ناقشتا إمكانية مشاركة شركات صينية في عمليات التنقيب عن الموارد الطبيعية في المنطقة القطبية لروسيا، وهو أمر ترحب به روسيا التي تسارع الخطى للاستعانة بالصينيين في التنقيب عن المناطق المليئة بالغاز والنفط في أراضيها ومناطقها الحدودية في القطب الشمالي، لمواجهة العقوبات الأميركية المفروضة عليها.

وفي الخلاصة، لا يتوقف الحديث عن القطب الشمالي عند الثروات الطبيعية والحرب الدائرة من حولها، ذلك أن هناك بعداً آخر غير مرئي، يربط بين الأطماع البشرية في الثروات واختلال أحوال كوكب الأرض إيكولوجياً، انطلاقاً من تلك المنطقة القطبية… ماذا عن ذلك؟

Exit mobile version