Site icon Q8-Press

الذكرى الثمانون للحرب الوطنية العظمى: إرث طاجيكستان من التضحية والبطولة

بقلم: عميد السلك الدبلوماسي لدى الكويت
سفير طاجيكستان- الدكتور زبيدالله زبيدوف

في عام 2025، يُحيي العالم الذكرى الثمانين للانتصار في الحرب الوطنية العظمى (1941-1945)، التي شكلت جزءًا من الحرب العالمية الثانية الأوسع. تُذكرنا هذه المناسبة الجليلة بالشجاعة والوحدة والتضحية المذهلة التي أظهرها شعب الاتحاد السوفيتي. بالنسبة لجمهورية طاجيكستان، التي كانت آنذاك جمهورية سوفيتية، أصبحت الحرب لحظة فارقة في تاريخها، تاركةً إرثًا خالدًا لا يزال يُخلّد حتى يومنا هذا.

نطاق الحرب: مأساة مشتركة

كانت الحرب الوطنية العظمى أكبر صراع وأكثرها تدميرًا في تاريخ البشرية. فقد أكثر من 27 مليون مواطن سوفيتي حتفه، وفقدت كل عائلة تقريبًا في الاتحاد السوفيتي فردًا واحدًا على الأقل. جلبت الحرب معاناة للشعب السوفيتي على نطاق لم يسبق له مثيل، لكنها كشفت أيضًا عن قوة وتضامن العديد من الأمم والعرقيات في الاتحاد. على الرغم من بُعد طاجيكستان الجغرافي عن خطوط المواجهة، إلا أنها لعبت دورًا فعالًا وأساسيًا في النضال الجماعي ضد الفاشية.

المساهمة العسكرية: الجنود الطاجيك في المعركة

تم حشد ما يقرب من 305,000 شخص من جمهورية طاجيكستان السوفيتية الاشتراكية إلى الجبهة خلال الحرب. كان هذا عددًا كبيرًا بالنظر إلى أن إجمالي عدد سكان طاجيكستان آنذاك كان يزيد قليلاً عن مليون ونصف المليون نسمة. ويعكس حجم مشاركة الجمهورية التزام شعبها العميق بالقضية السوفيتية المشتركة.

خدم الجنود الطاجيك في جميع جبهات ومعارك الحرب الرئيسية تقريبًا وفي الجبهة الغربية، قاتلوا دفاعًا عن بيلاروسيا ودول البلطيق.

في الجبهة الجنوبية، انضم العديد من المقاتلين الطاجيك إلى المعارك في جميع أنحاء أوكرانيا والقرم والقوقاز. وخلال حصار لينينغراد، ساعدت الوحدات الطاجيكية في تحرير المدينة من الحصار النازي. في عملية باغراتيون (1944)، إحدى أنجح الهجمات السوفيتية، شارك الجنود الطاجيكيون في تحرير بيلاروسيا. وفي برلين (1945)، كان بعض المقاتلين الطاجيكيين جزءًا من القوات التي اقتحمت الرايخستاغ، منهيةً بذلك نظام هتلر. ومن بين الذين شاركوا في الحرب، لم يعد أكثر من 92 ألف جندي طاجيكي إلى ديارهم، وأُبلغ عن فقدان أو أسر أكثر من 54 ألفًا.

أبطال من طاجيكستان

نال العديد من الأفراد من طاجيكستان التقدير لشجاعتهم الاستثنائية:

سراج الدين إسرائيلوف – من مواليد مدينة حصار، مُنح لقب بطل الاتحاد السوفيتي لشجاعته في المعركة.

تورسون أولجاباييف – رئيس مجلس وزراء جمهورية طاجيكستان الاشتراكية السوفيتية لاحقًا، خدم في الجبهة وأصبح رمزًا للقيادة والنزاهة.

على الرغم من أن ميرزو تورسونزودا لم يكن جنديًا في الخطوط الأمامية، إلا أنه ساهم مساهمة كبيرة من خلال الأدب، رافعًا معنويات الجنود والمدنيين على حد سواء بأشعاره وكتاباته الوطنية.

ستار تورسونوف – أحد الطيارين الطاجيكيين القلائل، نفّذ عشرات المهام القتالية خلال الحرب.

في المجمل، مُنح 56 جنديًا طاجيكيًا لقب بطل الاتحاد السوفيتي، وحصل المئات منهم على أوسمة المجد، وأوسمة النجمة الحمراء، ووسام الحرب الوطنية.


الحرب خلف الخطوط: الجبهة الداخلية لطاجيكستان

امتدت مساهمة طاجيكستان في الحرب الوطنية العظمى إلى ما هو أبعد من ساحة المعركة. أصبحت الجمهورية مركزًا لوجستيًا وإنسانيًا للمجهود الحربي:

– الإنتاج الزراعي

لعبت طاجيكستان دورًا استراتيجيًا في إنتاج القطن، وهو أمر أساسي لصنع الزي العسكري والخيام والإمدادات الطبية. وعلى الرغم من رحيل العديد من الرجال، إلا أن حصاد القطن استمر بفضل العمل الدؤوب للنساء والمراهقين. وأصبحت الجمهورية تُعرف باسم “جبهة القطن” في الاتحاد السوفيتي.

– الإنتاج الصناعي

نُقلت عشرات المصانع من غرب الاتحاد السوفيتي إلى مدن مثل دوشانبي (ستالين آباد آنذاك) وخوجاند، حيث دُرِّب العمال المحليون على تصنيع سلع أساسية في زمن الحرب. ومن بينها مصانع النسيج والميكانيكا والمواد الكيميائية.

– دعم اللاجئين

استقبلت طاجيكستان عشرات الآلاف من النازحين، بما في ذلك دور أيتام كاملة، ومجموعات فنية، ومؤسسات علمية. فتحت العائلات المحلية منازلها، وساعدت المؤسسات الحكومية في توفير السكن والغذاء للنازحين.

– دور المرأة والشباب

مع انخراط الرجال في الحرب، تولت النساء الطاجيكيات أدوار سائقات الجرارات، وعاملات المصانع، والممرضات، والمعلمات. وحشدت منظمات مثل كومسومول والرواد الشباب الشباب للعمل الوطني: جمع الطعام، ورعاية الجرحى، وكتابة الرسائل للجنود، وتنظيم الفعاليات الثقافية لرفع الروح المعنوية.

– مساهمات ثقافية وتعليمية

قدّم المثقفون والكتاب والفنانون الطاجيكيون مساهمات ثقافية بارزة خلال الحرب، حيث كتب كتّاب مثل بوبوجون جافوروف وعبد القاسم لاهوتي أعمالًا أدبية وخطبًا تشجع على الوحدة والمقاومة. كما عُرضت بانتظام أغاني وطنية وعروض مسرحية في المدارس والمصانع ومعسكرات الجيش.

نشرت صحف مثل “توجيكستوني سوفيتي” أعدادًا خاصة من زمن الحرب تضمنت قصائد وتقارير من جبهات القتال وتكريمًا للأبطال المحليين.

طاجيكستان ما بعد الحرب: إعادة البناء وتخليد الذكرى

كُرِّست سنوات ما بعد الحرب لإعادة بناء البلاد والحفاظ على ذكرى من فقدوا أرواحهم. بذلت طاجيكستان جهودًا كبيرة لبناء: نُصب تذكارية للنصر، مثل حديقة النصر في دوشانبي، التي تضم شعلة خالدة ومتحفًا للحرب؛ ومجمعات تذكارية في كل مدينة ومنطقة رئيسية، تُدرج أسماء الجنود الذين سقطوا؛ وبرامج تعليمية، تشمل الكتب والمناهج الدراسية، تُخلّد ذكرى الحرب؛ ويُحتفل بيوم النصر (9 مايو) كل عام بالمسيرات والحفلات الموسيقية والاحتفالات. ويُعتبر قدامى المحاربين ضيوفًا مُكرَّمين، وتُقام لحظات صمت حدادًا على من ضحوا بأرواحهم.

قدامى المحاربين الطاجيك في عام 2025: أساطير حية

مع مرور الوقت، يتناقص عدد قدامى المحاربين الأحياء بشكل طبيعي. اعتبارًا من عام ٢٠٢٥، لم يتبقَّ على قيد الحياة في طاجيكستان سوى أقل من ١٢٠ من قدامى المحاربين في الحرب الوطنية العظمى، معظمهم الآن في أواخر التسعينيات من عمرهم أو أكبر. وتواصل الحكومة الطاجيكية، من خلال لجنة المحاربين القدامى والحماية الاجتماعية التابعة لها، دعم هؤلاء الأبطال الوطنيين بخدمات الرعاية الصحية والدعم المالي والتقدير العام.

يحمل كلٌّ من هؤلاء المحاربين القدامى ذكرى رفاقه الذين سقطوا، وتُشكِّل أصواتهم صلةً مباشرة بإحدى أهم اللحظات المحورية في تاريخ البشرية. تُجمع قصصهم من خلال المقابلات والأفلام الوثائقية والكتب للحفاظ على إرثهم للأجيال القادمة.

إرثٌ خالد: دروسٌ للأجيال القادمة

أرست مشاركة طاجيكستان في الحرب الوطنية العظمى أساسًا متينًا لهويتها الحديثة. لا تزال الشجاعة والوحدة اللتان تجلّتا خلال تلك السنوات تنعكسان في القيم الوطنية حتى اليوم:

احترام عميق للمحاربين القدامى وكبار السن

التزام بالسلام والدبلوماسية

شعور بالواجب الوطني لدى الشباب

كدولة مستقلة، لا تزال طاجيكستان فخورة بإرثها الحربي، وتواصل التأكيد على أهمية السلام والوحدة الوطنية والذاكرة التاريخية.

لا تُعدّ الذكرى الثمانون للحرب الوطنية العظمى مجرد حدث تاريخي بارز، بل هي شهادة حية على شجاعة الملايين وصمودهم ووحدتهم. بالنسبة لطاجيكستان، كانت الحرب بوتقةً كشفت عن قوة شعبها ورسمت مسار الجمهورية للأجيال القادمة.

من ساحات معارك ستالينغراد الملطخة بالدماء إلى حقول القطن في خاتلون، بذل الطاجيك قصارى جهدهم من أجل النصر المشترك. ستبقى بطولتهم – في جبهات القتال وفي الوطن – محفورة في وجدان الأمة إلى الأبد.

نتذكر و نفخر و نُكرّم و المجد الأبدي للأبطال !

Exit mobile version